خلقنا الله من آدم، وآدم من تراب، قذف من روحه ما أحيا طينه، وأنطق لسانه، وشغل مسامعه ومداركه، صنعه الله بيديه وعلى عينيه، ثم أخرجنا منه، وخلق لنا الأرض بصلابة يابستها، وليونة مياهها، حتى تحتضن وجودنا، وأنزل فينا كتاباً مقدساً ختم كل الكتب السماوية الشريفة، وفيه قال: "يحبهم ويحبونه"، عن المؤمنين الصادقين الذين لا يرتدون على دينهم، ويستجيبون لأمر الله.
لفظ صريح للحب العذب الجميل الذي يربط الخلق بالخلائق، لفظ عميق، إجحاف في حقه أن تمر عليه مرور الكرام على بيت الوليمة.. "يحبهم"، هل بلغ معناها مداركك؟
عندما يحب شخص آدمي شخصاً آخر، من نفس طينته، فإنه بلا وعي ولا شعور يحس بخفقان شديد في قلبه عند ذكر اسم محبوبه، تعتلي الحمرة وجنتيه عند لقائه، وترتعش أطرافه كلها عند لمسه، يتلعثم لسانه عند فراقه، وتسود الدنيا في عينيه حين غيابه، يضعف جهازه العصبي حين البعد عنه، وينشط ويقوى لحظة الركون إليه.
لله عز وجل المثل الأعلى، فذات الله سبحانه منزهة عن التجسيد، منزهة عن اتخاذ قلب وجوارح، وروح الله لا تدركها العقول ولا العيون المجردة، لكن قلوب العاشقين تلمسها عن دنو، إنه يحس بمعنى أن الله يحبه، وأنه سبحانه ما خلقه إلا وأحبه، فأن يخلقك الله لغرض عبادته معناه أن يخلقك لتقترب منه، فكيف يقاليك وقد خلقك لتكون بالقرب، الله سبحانه الذي أوجدنا من عدم هو الذي خصص لنا في كل جوف ليلة ميقاتاً ينزل فيه تبارك وتعالى؛ ليستجيب للداعي إذا دعاه ويغفر للمستغفرين، لكن المثير للاهتمام حقاً هو أن جوف الليل لا ينتهي أبداً، فعندما يبزغ الفجر في أرضك، يهبط الليل في أرض أخرى، وهكذا فالليل والنهار دائما الحدوث على الأرض كلها، ما دامت في دوران حول نفسها وحول الشمس.
كيف يعقل أن يكون لنا رب وإله عظيم هو الله تبارك في علاه، يحيط بكل القلوب علماً، وبكل الأفئدة إدراكاً، يمنح لكل الصادقين حباً، ثم نتوجه إلى غيره؟
"ألا يعلم مَن خلق وهو اللطيف الخبير"؟ إنه اللطيف الذي أحب ملايين البشر الموجودين على الأرض بعدل، سمع دبيب النملة وخرير القطرة وأزيز النحلة وتغريدة العصفور، فاطلع عليهم جميعاً، وسمع حزن قلبك فأرسل لك غيثاً يطهر به روحك، أو بعث لك طائراً يسبح بالقرب من نافذتك، أو سخر لك مؤمناً يقربك منه وهو الأقرب من حبل الوريد.
الله -عز وجل- أصدق محب لك، خلقك وفي أحسن صورة ركبك، سوّى نفسيتك وسخر لك ما يبهجك، اقترب منك حتى حين ابتعدت، وأحاطك بهالة كبيرة من الحب، إذا عممناها على كل من خلق سنحس أن هنالك طاقة ضخمة جداً من الأحاسيس الإيجابية تحيط بنا.
الله سبحانه حين يحبك لا يتركك بعيداً تشكك في هذا الحب، بل يرسل لك من العلامات ما يمنحك الثقة في ذلك، ويرضي نفسك المتعطشة للأدلة الملموسة، يقول سبحانه في الحديث القدسي الصحيح: "إِذَا أَحَبَّ اللَّهُ الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحْبِبْهُ فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ فَيُنَادِي جِبْرِيلُ فِي أَهْلِ السَّمَاءِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ فُلَاناً فَأَحِبُّوهُ فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي الأرض".
إنه تعالى إذا أحبك ابتلاك حتى تقلع عن ذنوبك، وتدنو منه، إذا أحبك سخر لك قوماً يحبونك فيغزو الحب عالمنا المليء بالأحقاد، وأكاد أجزم أننا لا ينقصنا الكثير حتى يفيض خيرنا على شرنا، لا ينقصنا إلا تذوق هذا الحب والعيش به واستشعاره في كل وقت وحين.
إن الصوفي عندما يقول: "الإنسان صورة الله في أرضه" لا يقصد بذلك الكفر والشرك وتجسيد هيئة الله، فما الصورة إلا نقل للصفات مع الإبقاء على الأصل، إنك صورة الله في أرضه فعلاً إذا تشبعت بهذا الحب، فإذا كان الله تعالى بتنزيهه وعظمته "يحب عباده الصادقين"، فما لك لا تستمد منه وهو الذي نفخ فيك من روحك صفة الحب هذه!
فتحب الله صدقاً حتى تكتب من زمرة "يحبونه"، ثم تحب نفسك تقديراً، وأشِع الحب بين الخلائق توسيعاً.
يقول شمس التبريزي الصوفي الجوال: "قلت للوردة حدثيني عن الله ففاحت عبيراً".
كن ذلك المحب المخلص لربك، ولا تسأل عن الطرق، ستجد الكثير من الأشياء من حولك تدفعك لحبه، في نفسك وحديقتك وكتبك، وحتى مقلمتك، دع محرك الحب في عقلك يشتغل بأعلى سرعة ممكنة، دعه يتدبر ويتفكر، دعه يحرض قلبك الخمول على الحب، أحب الخلائق حباً معتدلاً لا يضر روحك ولا يفوق حبك لربك، وتذكر قوله تعالى القدسي:
"حقَّت محبتي للمتحابين فيَّ، وحقت محبتي للمتواصلين فيَّ، وحقت محبتي للمتناصحين فيَّ، وحقت محبتي للمتزاورين فيَّ، وحقت محبتي للمتباذلين فيَّ.. والمتحابون فيَّ على منابر من نور، يغبطهم بمكانهم النبيون، والصديقون، والشهداء".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.