ذات ليلة كنت أجلس أمام حديقة صغيرة تاركة أفكاري تحملها الرياح.. كنت في حالة خدر مستسلمة لبرودة الجو وصوت حفيف الشجر حولي، ثم فجأة أتاني خاطر، تمنيت لو استطعت أن أفتح قلبي وأُخرج مشاعري كي أغرسها في التربة.. أن أراها تنبت أشجاراً من الحب، تقف وسط السماء غير خائفة، شعرت أنها ستكون خصبة أكثر وسُتروى بماء متألق والشمس تحمصها وتزيدها دفئاً وحميمية.
أحب الطبيعة كثيراً، وأجدها أكثر بلاغة وحكمة من البشر، في يوم جاءتني أسئلة وجودية عجزت إجابات الناس عن طمأنة قلبي، حتى الإجابات المنطقية التي عكف الناس على سد فجواتها وصبوا الحديد على جوانبها كي لا يداخلها الشك.
كنت غارقة في محيط من الظلام فعزمت أن أنطلق للجبل بحثاً عن إجابة، في كل لحظة أثناء صعود الجبل كان يذوب التعب العقلي في التعب الجسدي، يتفاعلان معاً كيميائياً، فتنبت فكرة صغيرة أراها ساطعة لأول مرة، لكن اللحظة التي أجابت عن كل الأسئلة، اللحظة التي فني فيها الكلام وتحول إلى شعور قلبي لا توجد نظرية في العالم يمكنها زحزحته.
حينما وقفت على قمة الجبل أرى الشمس تغرب أمامي، والسحب تتجه نحوي، وقمم الجبال البعيدة كخلفية للمشهد.. وقتها قلت "ما أحمقكم أيها البشر!".. من هذا الذي يشك فيك يا رب؟ ولا كلمة قادرة على أن تصف عظمتك ونورك.
جلست صامتة أسمع صوت الرياح، أقسم أنها كانت تتحدث وصوتها العالي يجيب قلبي، كنت أشعر بالبرد الشديد ورغم ذلك لم أتحرك من مكاني.. آية الجمال تلك أعجزتني عن الشعور بشيء آخر سوى الإيمان بوجود الله، أنستني البرد والجوع والخوف، من وقتها أدركت أن الطبيعة حكيمة جداً، وأن صمتها هذا لو أنصتت إليه لسمعت صوت قلبك، وهو ما تعجز عن فعله في أي مناظرة فكرية ذكية.
الله -عز وجل- يسوق إلينا نماذج البشر في الأنبياء بكل اختلافهم؛ سليمان الملك، وأيوب الفقير، ويوسف السجين، وموسى القوي، وإبراهيم المفكر، كان إبراهيم -عليه السلام- يحب التأمل والفكر، وفي أكثر من قصة في القرآن يتبين لنا شخصيته، جلس ليالي ينظر مستفهماً إلى السماء: "فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر فلما أفلت قال إني بريء مما تشركون * إني وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض"، استخدم الطبيعة كي يجيب عن أصعب أسئلة الحياة: مَن الخالق؟ ما الحياة والموت؟ اعتزل قومه بأصنامهم وأفكارهم وكتبهم الموروثة وقرأ كتاب الطبيعة؛ لذلك أحد المفاهيم التي أعجبتني في كتاب "البوصلة القرآنية"، حينما وصف أحمد العمري كلمة "اقرأ" في القرآن بأنها ليست قراءة الكلمات، بل قراءة الكون.
حينما تقف أمام البحر فأنت تقرأ، وأنت تتخلل بأصابعك رمل الصحراء وتنظر لوجه القمر وسط الظلام، حينما تراقب فرخاً يخرج ببطء من البيضة، هذه كلها إجابات لأعمق أسئلة نفسك.
ذات يوم كنت أجلس أراقب ورقة شجر متعلقة بغصنها، كانت الرياح تشتد فتهزها بعنف ثم تهدأ، كانت أكثر اطمئناناً مني وأنا التي أجلس لا يهدد حياتي خطر الاقتلاع والموت مثلها، كانت لا تصرخ ولا تشتكي، ولا يعصف بعروقها الخضراء مشاعر القلق والذعر.. الأمر أبسط من ذلك، هي تعلم أنها آمنة في يد الله عز وجل، وهذا ما أعطاها السكون الكافي كي تقبل الموت حينما يأتي.
قالت لي صديقتي يوماً: إن من يستسلم لقدر الله كان كمن يعلم الغيب؛ لأنه أخذ ملعقة علمه القليلة وأذابها في علم الله الواسع؛ لذلك وهو يرتشف القدر المر يدرك جيداً أنه دواء، دواء لقلة صبره، لقسوته، لحيرة قراره، لأمراض نفسه عموماً، وهذا يغير فكرتك تماماً عن المرض والفقد والفقر وعدم التوفيق، لو قبلتها كما تفعل أوراق الشجر لمرت العاصفة وتركتك أكثر حكمة.
اختلاف الطبيعة يؤثر في الأفكار، فمثلاً حين أجلس أمام البحر أشعر بعدم استقرار نفسي وتتشاجر الأفكار في رأسي، فأترك الدفة وأغرق في أمواج البحر، أحياناً شعور الغرق ضروري كمفر أخير من صراعك الداخلي، اللون الأزرق يجعلك تذوب كلية داخل الدوامات المائية، يفيدني هذا الأمر كثيراً حينما تسيطر فكرة على عقلي وترهقني نفسياً، فأجد في خلال دقائق أنني قد نسيتها تماماً.. بينما في الصحراء يختلف الأمر؛ الصمت المهيب والرمال الذهبية الواسعة تجعل الأفكار تنساب من عقلك وتتجسد على هيئة بيوت ومكعبات واضحة أمامك، قلة الألوان في الصحراء وعدم وجود حواجز تحجب السماء كالشجر الكثيف أو شلالات المياه تجعل عقلك صافياً منتبهاً لدبيب الأشخاص الكثيرة التي اعتادت أن تتسلل بخفة داخلك وتثير جنونك، ستكون قادراً على أن تشعل ناراً دافئة تجمعهم حولها وتتصالح معهم، يجلس بجانبك الماضي فتربت عليه للمرة الأولى وتسامحه.. ثم تناقش أسئلتك الأكثر حيرة، وأنتم تلتهمون في سعادة الدجاج المشوي.. وتمر عليكم أكواب القهوة والشاي بالمرمرية فتصمتون احتراماً لجمال اللحظة، ثم تنامون تحت النجوم، وينظر كل منكم لنجمة بعيدة يفكر في سرها، هذا الشعور الذي يجعل كل مَن ينام في الصحراء يتساءل كيف ذاب في الكون وفهم كل شيء.. لأنه ولأول مرة فتح السجن الداخلي وأطلق سراح ذاته.
هذا الشعور التام بالحرية والسعادة وسط الطبيعة جعلني أتخيل ماذا لو استطاع الناس أن يزرعوا أحلامهم في الأرض حقيقة وليس مجازاً.. أن يذهبوا للصحراء ويلقوا البذور الصغيرة التي عجزوا أن يمنحوها للبشر، سواء كان خوفاً أو عدم ثقة.. بذور ممتلئة بحب مدفون، ورحمة ونور ورغبة غير عادية للحياة، يهمسون بها هناك قبل أن يموتوا ويمنحوا الأرض فرصة كي تمتص حبهم وتغذي به الكائنات.. أتخيل كيف سيصبح لون الشجر والفاكهة وطعم المياه المروية بأعماق قلوبهم.