يزداد الاهتمام في القيادة والصفات المطلوبة في القائد يوماً بعد يوم، وذلك لأهميتها في تحقيق التطوّر والنجاح في مختلف مجالات الحياة، من سياسية واقتصادية واجتماعية وتربوية، وظهرت الكثير من النظريات المتضاربة حول طبيعة الصفات القيادية، فمثلا، أفادت أولى نظريات القيادة (نظرية الرجل العظيم – 1840) التي طرحها الكاتب توماس كارليل، بأن صفات القيادة تُولد مع الإنسان، ولا يمكن اكتسابها من أي بيئة؛ مما يدفع إلى وجود عدد محدود من القادة، إلا أن (نظرية السمات – 1930) التي وضعها العالم النفسي رايموند كاتل أفادت بإمكانية اكتساب صفات القيادة وليس شرطاً أن تكون موروثة فقط، فمثلاً، تعدّ الثقة بالنفس وحب التعاون من الصفات الموروثة، أما مختلف المهارات الاجتماعية كالإقناع والقدرة على التواصل مع الآخرين فيمكن تعلّمها لاحقاً.
وعلى الرغم من وجود الكثير من النظريات الأخرى التي تم طرحها بعد ذلك حول الصفات المطلوبة للقائد، فإنها تفتقر إلى الإثبات التطبيقي، ولكن قبل ذلك بقرون، كان قد أوجد الإسلام نموذجاً واقعياً كاملاً ومتكاملاً للقائد القادر على إلهام الآخرين.
فالقائد الملهم هو القادر على تحفيز الآخرين، وإثارة روح الحماس والتعاون فيما بينهم، وإخراج أفضل ما لديهم، كما يساعدهم على تحدّي أنفسهم، وتطويرها ليكونوا أفضل حالاً.
ولكن ليحقق ذلك عليه أن يتحلّى بصفات مميزة، وهي التي سيتم التعرّف عليها من خلال شخصية الرسول محمد صلى الله عليه وسلم:
أولاً: على القيادي الملهِم التحلّي بالأخلاق الحسنة؛ ليتمكّن من التأثير على الآخرين، وهذا ما أشار إليه أيضاً ستيفن كوفي، في كتابه الأفضل مبيعاً حول العالم: "العادات السبع لأكثر الناس كفاءة"، فالشخص ذو الخلق الحسن هو الذي يفضل الناس التعامل معه على أي أحد آخر، فهي تكره الكاذب والمخادع وتقطع علاقتها معه، ولذلك كان الرسول – صلى الله عليه وسلم – أفضل الناس خلقاً؛ لقوله تعالى: "وَإنَّكَ لعَلى خُلقٍ عَظيم" (القلم: 4)، وقالت عنه أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- في وصفه: "كان خلقه القرآن".
كما عُرف -عليه الصلاة والسلام- بالصدق والأمانة حتى قبل البعثة، فقد قبلت الأطراف المتنازعة من قريش تحكيمه في وضع الحجر الأسود، بقولها في الإشارة إليه عند وصوله إلى الكعبة: "هذا الأمين، رضينا به حكماً".
ثانياً: تعد المعرفة والحكمة من الصفات المهمة للقائد الملهِم
وذلك ليتمكن من توجيه الناس لما فيه الخير لهم، فبحسب صاحب أفضل الكتب مبيعاً حول العالم "جون أدير"، على القيادي الملهِم التفوق بعلمه وحكمته على غيره.
وعلى الرغم من أميّة الرسول الكريم، فإن الله -تعالى- أنزل عليه الحكمة والعلم الغزير بما يتعلّق بقيادة الأمة، وذلك عن طريق الوحي، سيدنا جبريل عليه السلام، قال تعالى: "مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى * وَمَا يَنْطِقُ عَنْ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى" (النجم: 2 -5).
وقد حاولت اليهود اختبار علم الرسول -صلى الله عليه وسلم- أكثر من مرة، مثل سؤاله عن عقوبة الزاني المحصن، وإشارتهم على قريش بسؤاله عن أهل الكهف وذي القرنين والروح.
فالرسول كان معلماً وبشيراً ونذيراً، وبيّن أن العلماء ورثة الأنبياء، وأهمية توليهم لمناصب الحكم؛ بقوله صلى الله عليه وسلم: "مثل العلماء في الأرض كمثل النجوم في السماء، يهتدى بها في ظلمات البر والبحر، فإذا انطمست النجوم أوشك أن تضل الهداة"، ولذلك يشترط في الأئمة تفوقهم في الدين، وأن يكونوا من العلماء في حكم الشرع؛ ليتمكنوا من توظيف خبرتهم وحكمتهم في تسيير أمور الناس لما فيه الخير لهم، وإن تخلّفوا على ذلك فلا شرعية لهم؛ لما سينتج عن ذلك من ظلم على العباد، وتشتت شملهم، وانهيار أمتهم.
من جهة أخرى، على القائد الملهم عدم التصرّف خارج حدود معرفته، والإقرار بوجود من هو أعلم منه في مجالات الحياة الأخرى، وهذا ما بيّنه الرسول -صلى الله عليه وسلم- بقوله: "ما كان من أمر دينكم فإليَّ، وما كان من أمر دنياكم فأنتم أعلم به".
ثالثاً: على القائد الملهم حُسن التعامل مع الآخرين والعفو والصبر عليهم:
فالقائد الملهِم لا ييأس من الآخرين لإيمانه بالخير والقوة فيهم، فكان أن عفا الرسول -صلّى الله عليه وسلم- على الصحابة بعد أن خالفوا أمره في غزوة أحد، وذلك بعد أن أوصاه الله تعالى بذلك بقوله جلّ وعلا: "فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنْ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاستغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ" (آل عمران: 159).
فالعفو والصفح عاملان أساسيان في تحفيز الآخرين؛ ليكونوا أفضل حالاً، وهذا ما أدى إلى اعتناق اليهودي الإسلام عندما زاره الرسول لعيادته وقت مرضه على الرغم من إيذائه المتكرر له.
والصفح صفة لا يستطيع أي أحد أن يمتلكها إلّا في حال تمكّن من تفهّم الآخر بالاستماع له وتقدير ظروفه واحتياجاته، وإدراك الأبعاد النفسية والاجتماعية له قبل إصدار الحكم عليه، قال تعالى: "وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِي أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِي حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ" (فصلت: 34 و35)، وهذا ما فعله -صلى الله عليه وسلم- عندما قام حاطب بن أبي بلتعة بإفشاء سر غزو الرسول لأهل مكة من خلال كتاب أرسله مع امرأة من المشركين، وعندما واجهه الرسول أخبره أنّ السبب هو خوفه على أهله، فصدّقه وأطلقه، ومنع عمر بن الخطّاب من قتله، والآخرين من غمزه ولمزه.
رابعاً: على القائد الملهِم استشارة الآخرين، واتخاذ القرار الذي تم الإجماع عليه، وهو من الأهمية البالغة لما له من أثر في إشعارهم بقيمتهم واحترامهم وكسب ثقتهم وإخلاصهم.
قال تعالى: "وَالَّذِينَ استجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ" (الشورى: 38)، وكان الرسول -صلى الله عليه وسلم- يستشير صحابته في أكثر من موضع، وفي ذلك قال أبو هريرة: "ما رأيت أحداً أكثر مشورة لأصحابه من رسول الله صلى الله عليه وسلم"، حتى قبل وضع الولاة والأمراء وقادة الجيش كان -عليه الصلاة والسلام- يستشير المسلمين في ذلك، كما استشار أصحابه في اختيار مكان غزوة بدر بقوله: "أشيروا عليَّ أيها الناس"، وكان أن أشاروا عليه أيضاً في غزوة أُحُد بقتال المشركين بدلاً من التحصّن داخل المدينة، وعمل بنصيحة الصحابي سلمان الفارسي بحفر الخندق في غزوة الأحزاب.
كما كان -عليه الصلاة والسلام- يأخذ برأي زوجاته أمهات المؤمنين، فمثلاً، أشارت عليه زوجته أم سلمة بالنحر والتحلل من الإحرام في صلح الحديبية أمام المسلمين ليقتدوا به.
خامساً: لن يكون القائد ملهماً وقادراً على تحفيز الآخرين إن لم يوجد معهم في كل الأحوال لحل مشكلاتهم ولمشاركتهم المهام والمخاطر، فالرسول -صلى الله عليه وسلم- كان يعقد مختلف المجالس في مسجده ومنزله، وشارك المسلمين الغزوات، وكان قادراً على إشعارهم بالنصر والأمان حتى في أحلك الظروف، تماماً كما في قوله لأبي بكر، عندما اختبأ معه في الغار: "لا تحزن إن الله معنا".
وأخيراً، إن لم يساعد القائد الآخرين على استشعار رؤية أفضل للمستقبل، فلن يتمكّن من تحفيزهم والتأثير عليهم، وهذا ما كان يفعله الرسول -صلى الله عليه وسلم- بوصف ثواب الجنة التي أوجدها الله تعالى للمتقين، وبحثِّ المسلمين على التنافس فيما بينهم لنيل أعلى درجاتها، وهذا ما كان سبباً في نصرة أبي الدحداح لليتيم الذي شكا نخلة جاره، بمنح مزرعته المميزة والمعروفة للجار ليتنازل عن نخلته مقابل مزارع لا تعداد لها في الجنة!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.