أرسل صديق لي صورته أثناء تجواله في مهام عمله، صديقي يعمل بالأمم المتحدة في قوات حفظ السلام، يسافر إلى المناطق المشتعلة من العالم دون وجل أو خوف، موقن تماماً بأنه لن يرى إلا ما قد كتب له، كل يوم بالنسبة إليه يوم جديد قد وُلد فيه، هذا أمر لا ينتبه إليه معظمنا، ونعمة لا يستشعر معظمنا وجودها.
أخذت أتأمل الصورة التي أرسلها، لفت انتباهي شيء ما فيها، كانت الصورة من منطقة دارفور جنوب السودان، جزء من العالم يجهله جلنا، ولا يلقي له الكثير منا بالاً، منطقة فقيرة بكل المعاني، ما كان لافتاً في الصورة بالنسبة لي هو تجمع الكثير من الأطفال ذوي البشرة السوداء حول صديقي ذي البشرة البيضاء المشربة بحمرة، فهو من أصول تركية، أخذت أتأمل المنظر وأردد مع نفسي: "نقطة بيضاء في بحر من السواد"، قد تعتقدون أنني أسخر من أصحاب البشرة السوداء بقولي هذا، أو لعلكم تظنون أنني أميل للتمييز العنصري، إن ظننتم ذلك فقد ارتكبتم إثماً، فإن بعض الظن إثم.
علينا ألا نلقي التهم جزافاً، وألا نأخذ الأمور بصورتها العامة، وألا نأخذ القول بظاهره، أنا لا أسخر من أحد، أياً كان لونه أو انتماؤه أو جنسيته أو أي شيء آخر، ففي أول الأمر وآخره هو إنسان مثلي، "نقطة بيضاء في بحر من السواد"، حكمة رأيتها في تلك الصورة التي قد تمضي عابرة على الكثيرين، في الصورة يقف صديقي بملابسه الرسمية مصافحاً إياهم وهو مبتسم، هم بالمثل يفعلون، هم في أوج سعادتهم، يظهر ذلك جلياً من ابتساماتهم المشرقة، يحاولون الظهور بصورة بسيطة بعيدة عن التكلف والتصنع، براءة ظاهرة في أعينهم وردود فعلهم، براءة فقدناها بشكل واضح، لم أهتم باختلاف الألوان بينه وبينهم، فبالنسبة لي الإنسان ليس بلون بشرته أو جنسيته ولا بانتمائه لوطن من الأوطان، الإنسان بكونه إنساناً.
لفترة ليست بقصيرة تأملت الصورة، ولم أكتفِ من ذلك، سألت صديقي عن هذا الموقف، وهل هو موقف عابر بالنسبة إليه؟ أخبرني أنه يفعل ذلك بشكل شبه يومي، يجد مجموعة من الأطفال، يذهب إليهم أو هم من يحضرون إليه فهم من يرونه غريباً عنهم، يصافحهم ويصافحونه، وينتهي الأمر بالنسبة إليه، يحدث ذلك مراراً وتكراراً، سألته: هل هناك فائدة من ذلك بالنسبة إليك؟ أجابني بكل ثقة دون أن يمنح نفسه فرصة للتفكير: كلا.. الأمر عادي بالنسبة لي، يشعرني ببعض الراحة، هنا تأكد لديَّ ما كنت أفكر فيه، فالكثيرون منا يفعلون ذلك، يقومون بأعمال تشعرهم ببعض الراحة وكفى، ثم ماذا بعد ذلك؟ لا شيء، لا شيء البتة، نفعل ما نفعل لكي نرتاح للحظات معدودات فقط، من الطبيعي أن نفعل ذلك ونستمتع بالراحة.
ولكن هناك صورة أكبر مما نعتقد، فلنتخيل معاً تلك الصورة، ولنتأمل حياتنا وما نقوم به من أعمال، حتماً كثير منا من يكتفون بالنظر إلى الصورة، مواقف مثل تلك نرى فيها أنهم غرباء عنا، لو كانوا بالنسبة إلينا ضعافاً استأسدنا عليهم، البعض منا سيحاول التقرب منهم بكل الوسائل والأشكال، سواء أكانت بطريقة لائقة أو بشكل مهين، الغرباء عنا نذهب إليهم، نتأملهم ونحاول استكشافهم وكأنهم مخلوقات أخرى لا نعرفها، نتعامل معهم عادة بنظرة متعالية، فوقية، قد لا نحترمهم ولا حتى أنفسنا، فنقوم بالسخافات وأسوأ العادات والتصرفات، تختلف تلك النظرة لمن هم أعلى منا، فهؤلاء نحاول أن نعطيهم انطباعاً بأننا جيدون، أننا مثلهم، نبتسم تلك الابتسامة البلهاء، نشعر بنقصنا عندما نقترب منهم، غريبة هي ردود فعلنا، ما هو أغرب تصرفاتنا في المواقف!
أعود لتلك النقطة البيضاء في بحر من السواد، ما يقوم به صديقي جيد، فهو يُدخل الابتسامة على قلوب هؤلاء، هو يفرحهم ويذهب، ولكنهم سيظلون يتذكرون ويتحاكون حول ذلك، معظمنا يحاول ويسعى لأن يكون كذلك، نحاول دائماً أن نقوم بالأعمال الخيرة، مهما تغيرت أشكالها وطرقها ووسائلها، نسعى لعمل الخير والمشاركة فيه، حتى من قست قلوبهم منا قد يفعلون ذلك، تلك هي الطبيعة البشرية التي فقدها الكثيرون، فكم في هذه الدنيا من يعيش من أجل المادة فقط دون أي إحساس بما يسمى بني البشر، كم منا ظلم وكم منا نسي أن كل إنسان هو كيان له قيمته؟ كم في هذه الدنيا من يعيش لأجل نفسه فقط ومن أجل دائرة اهتمامه فقط أما الآخرون فلا وجود لهم؟ هذا هو ما قصدته ببحر من السواد، كم منا يرتكب الحماقات؟ وكم منا يرتكب المعاصي والسيئات؟ وكم منا نسي سبب خلقه وظن أنه في هذه الدنيا ممن اصطفاهم الله؟ كم منا عاش بلا إحساس ولا مشاعر؟ كم منا عاش وقد تحجر قلبه ليكون كالحجارة أو أشد قسوة؟ كم منا سلب ونهب وظلم وفعل عن طيب نفس ما قد حرم؟ معظمنا فعلنا ذلك ولو بصورة يسيرة.
بحر من السواد نغوص فيه، لا ينجينا منه إلا رحمة رب العالمين، نقطة بيضاء من الخير قد تنجينا، وقد تجعلنا من الفائزين، رحمة ربي واسعة، لا حدود لتلك الرحمة، ومهما كان بحر السواد الذي بين أمواجه نسبح فرحمة ربي أكبر، لا تستصغروا شيئاً من الأمور الجيدة، افعلوا ما تقدرون على فعله، فنحن اليوم أحياء نقدر على الفعل، غداً سنكون هناك وسنطلب من خالقنا أن نعود لنقدم ما تغافلنا عنه، فلنغتنم فرصة وجودنا على هذه الأرض، ولنقدم كل ما نستطيع تقديمه، ولو مجرد ابتسامة، فالابتسامة صدقة والصدقة تطفئ غضب الرب.
ما زلت ممسكاً بالصورة أتأملها وأتأمل تلك الوجوه المبتسمة، أسأل نفسي: لماذا نقوم بما هو عكس ذلك؟ ولماذا نضع نقطة سوداء في بحيرة بيضاء؟ أيهما أفضل وأيهما أجمل؟ اتصلت بصديقي وقلت له: لِمَ لا تستغل هذا الأمر وألا يكون ما تفعل مجرد روتين؟ اجعل ما تقوم به عملاً خالصاً لوجهه تبتغي من ورائه الحسنات، لا تكتفي بنقطة بيضاء واحدة، مهما عظم بحر السواد لا تكترث، نقطة بيضاء قد لا تغير الحال بالنسبة للكثيرين، ولكنها أمل، فالخير كثير في قلوبنا وما علينا إلا إخراجه.
ابحثوا عن تلك النقاط البيضاء التي بداخلكم وأخرجوها، محاولين بها محاربة بحر السواد الذي حفرناه بأيدينا؛ لكي نلقي فيه بأنفسنا، نقتل أنفسنا بأنفسنا دون أن ندري، هذا ليس بصحيح، فنحن نعلم أننا نقتل أنفسنا، ولكن البعض منا لا يبالي.
أخرجوا من أعماق أرواحكم تلك الحقيقة، وذلك الخير الموجود بداخلكم، وانسوا أن هناك بحراً من السواد، نستطيع أن نتجاهل وأن نرى الصورة المشرقة للأمر.
صديقي العزيز.. أريد منك أن تجعلهم يضحكون كما جعلتهم يبتسمون، ولكن احرص على ألا ترسل لي بصورك وأنت تفعل ذلك؛ لأن في طلبي هذا خيراً لك، ليس بالضرورة أن أشاهد ما تفعل، هناك من يعلم، ومن سيجازيك عن كل شيء، سواء هنا أم هناك، فرحمته ليس لها حدود.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.