حياة جديدة في أديليد

تجتمع في هذا البلد الثقافات على اختلافها، فالأوروبية والآسيوية وحتى الإفريقية، يقول البعض إن أستراليا هي اليوم مدنية دون حضارة، على اعتبار أنها قائمة على العلوم والتكنولوجيا، ويصفها البعض الآخر بأنها مدنية دون أخلاق، كل بحسب تجربته ومفهومه، إلا أن الحق أنّه لا يمكن أن تقوم أية دولة أو مدينة دون أخلاق، وإن اختلف المفهوم من مكان إلى آخر، فالأخلاق هنا تتمثل في احترام المواعيد، والدقة في العمل والأداء، وحسن المعاملة، واحترام الآخرين واحترام حرياتهم.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/19 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/19 الساعة 02:03 بتوقيت غرينتش

في غرفتي الجديدة الموجودة في سكن الطالبات أعطتني موظفة الاستقبال مفتاح الغرفة ومعه ورقة مكتوب عليها تعليمات، ومن ثَمَّ أشارت إلى المصعد قائلة: الغرفة موجودة في الطابق السادس.

كانت الغرفة صغيرة نسبياً، والحائط فيها كان مكسواً بورق الجدران، ويعلوه مصباح "نيون"، فيها خزانة للملابس، ومكتب صغير، وكرسي، أما السرير فكان يتسع لشخص واحد، وفراشه وثير وليّن.

وضعت نفسي في السرير، فيجب أن أنام، الساعة الآن قد تجاوزت العاشرة مساء، وأنا متعبة جداً، فحتى تلك اللحظة كنت قد قطعت مسافة كبيرة جداً، دمشق، ثم بيروت، ومنها إلى الدوحة، ثمّ إلى مدينة بيرث الأسترالية، وها أنا الآن في مدينة أديليد.

في الساعة الثامنة من صباح اليوم التالي حضّرت نفسي للذهاب إلى الجامعة، التي كانت يفصلني عنها شارع واحد، ولكن بسبب جهلي في المكان، أو قد تجاهلي، لم أجد طريقي إليها، فقد كنت مشغولة بالنظر إلى الأبنية والشوارع المميزة النظيفة جداً، لدرجة أنني وددت السير حافية القدمين، كنت أنظر إلى تلك الوجوه السمحة، النضرة، البيضاء كالياسمين، الباسمة اللامعة العيون، شيوخاً كانوا أو شباباً، إشارات ممنوع التدخين كانت تنتشر في كل مكان، مثلها مثل الزهور والأشجار تملأ المكان بالروائح العطرة.

تجتمع في هذا البلد الثقافات على اختلافها، فالأوروبية والآسيوية وحتى الإفريقية، يقول البعض إن أستراليا هي اليوم مدنية دون حضارة، على اعتبار أنها قائمة على العلوم والتكنولوجيا، ويصفها البعض الآخر بأنها مدنية دون أخلاق، كل بحسب تجربته ومفهومه، إلا أن الحق أنّه لا يمكن أن تقوم أية دولة أو مدينة دون أخلاق، وإن اختلف المفهوم من مكان إلى آخر، فالأخلاق هنا تتمثل في احترام المواعيد، والدقة في العمل والأداء، وحسن المعاملة، واحترام الآخرين واحترام حرياتهم.. جميع مستلزمات التفوق في العلم والعمل، وما يتبعه من تفوق مادي واجتماعي، أنت في بلد يكون فيها الصدق فيها على رأس كل شيء.

مقهى صغير

اخترت مقهى صغيراً، فأنا ما زلت أجهل الأماكن، القاعة ليست بالكبيرة، تنتظم فيها الطاولات بأغطيتها الملونة، الهدوء تام، والتدخين ممنوع، والخدمة ذاتية، فعليك أن تختار ما تريد من طعام أو شراب بنفسك، كان هناك بعض السيدات اللواتي يعملن على تنظيف المكان بعد انتهاء الزبائن من طعامهم أو شرابهم. الرائحة الزكية تنتشر في كل مكان، والمطبخ منفتح على القاعة دون أن تصلنا أية رائحة منه أو ضجيج، اخترت فطوراً بسيطاً فأنا ما زلت أجهل أنواع الأطعمة التي أمامي.

التفت حولي، كان هناك رجل هرم ينحني على شريكته ليضبط لها وشاحاً أزرق كان على كتفيها، وآخر يملأ لشريكته الكوب بكل حنان ورقة، وآخر يبتسم لصديقته، ومن ثمّ يهمس في أذنها، لعلهما صديقان أو حبيبان أو ربما زوجان، ولكن من الواضح أن كلاً منهما يكاد يذوب بالآخر.. كنت أنا الوحيدة التي أنظر حولي، فما زال كل شيء جديداً بالنسبة لي، أما الآخرون فلا أحد يلتفت لأحد، فلا إزعاج، ولا تدخُّل في الحريات.

كانت الساعة قد قاربت التاسعة صباحاً، ولكن حركة الناس في الشارع نشطة، هذا الشارع المخصص للمشاة فقط، الذي عرفت فيما بعد أن اسمه هو الرندل مول "Rundle Mall"، وأنه من أشهر شوارع مدينة أديليد.

الشارع مخصص للمشاة فقط، والمحلات موجودة على جانبَي الطريق.. شد انتباهي أفواج من الحمام وهي تتجمع حول جالسٍ يطعمها، فالحمام موجود في كل مكان هنا، وقد تجده داخل الأسواق والمحلات المسقوفة، فهي آمنة على نفسها مطمئنة. الجالس كان شيخاً كبيراً في السن، ملتح بلحية تساوت فيها الشعرات البيضاء والسوداء عدداً، كان يضع على رأسه قبعة، وبجانبه عصاه التي تبدو ثمينة وقيّمة، وملابسه توحي بالجاه والعز، كان يحمل قطعاً من الخبز فيلقي بها يميناً ويساراً؛ لتندفع الحمامات مسرعة محاولة التقاط ما يُلقى إليها حتى قبل وصوله إلى الأرض.

كنت لا أزال أشعر بالتعب، فقررت أن اتخذ لي مكاناً إلى جواره، فحييته بانحناءة في رأسي، فقال لي: وعليكم السلام ورحمة الله بركاته، تبدين عربية، من أين أنتِ؟ وتحدثنا وعرفته بنفسي، ثم سألته: أهي الرحمة على الحيوان؟ هز كتفيه مجيباً: نعم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد