إليك يا شطر روحي “المنغولي”

أصبح الخوف يلازمك، وفقدت شجاعتك في التعامل مع الحياة ومقتنياتها، وبتَّ ترفض الخروج من البيت إلا برفقة أحد منا، رغم الملل واليأس الذي نشب أنيابه في روحك، فجعلك تنعزل وتبكي كثيراً، رغم محاولاتنا الدائمة في التخفيف عنك

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/15 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/15 الساعة 04:55 بتوقيت غرينتش

أخي الحبيب.. أكتب لك كلماتي رغم أنك غادرت وتركتني وحيداً.. أنا آسف لأنني لم أستطع أن أخفف من ألمك، وأن أحميك.. فسامحني يا واعد.

أخي.. كنتُ في الثانية عشرة من عمري عندما أخبرتني أمي أنها ستنجب لي أخاً يسند ظهري في هذه الحياة القاسية، التي لا تعترف بضعف إنسان، ولا ترحم كبوة إنسان، بل تراها تستغل ضعف الضعفاء أسوأ استغلال، فتسخر منهم، وتوبخهم، وتسفه قدرتهم، وتصفعهم، وتجلد ظهورهم، ولحرصي دائماً على أن أكون قوياً محمي الظهر، كنت دائماً أربط أحلامي بوجود أخ لي يشاركني التصدي لقسوتها تلك.. والوقوف أمام جبروتها وطغيان البشر فيها.

انتظرت قدومك يا أخي على أحر من الجمر، ولكنك كنت تلتصق برحم أمي رافضاً الخروج للدنيا، وكأنك تعلم ما ينتظرك في غياهبها، ما أجبر الطبيب على أن يشق بطن أمي ويخرجك بالقوة.. سمّيتك "واعداً"؛ لما يحمله قدومك لي من أمل كبير ومستقبل إخاله مشرقاً إلى جانبك.

بعد ما يقارب أسبوعين من قدومك للدنيا، شاهدت أمي تعتكف في غرفتها وتبكي كثيراً.. شعرت وكأن قلبي قد انتزع من صدري وداست عليه قدم غليظة حطمته، ماذا يحدث بحق الإله؟ هل هناك مكروه أصابك يحاولون إخفاءه عني؟ أستحلفكِ بالله يا أمي أن تخبريني ماذا يجري بالضبط.. وبتردد وبصوت متهدج ضعيف، أخبرتني بأنك لست طفلاً طبيعياً، فالطبيب قد أجرى لك فحوصات جينية أثبتت أنك مصاب بمتلازمة اسمها "البلاهة المنغولية"، وما أبشعها وأسوأها من تسمية! فلا سامح الله من أطلقها، صرخت بحدة وشتمت الطبيب قائلاً: أخي ليس أبلهاً، انظري إلى زرقة عينيه، وبياض بشرته وسواد شعره وعينيه اللوزيتين المسحوبتين قليلاً إلى الأعلى ما يزدهما جمالاً.. انظري إليه كم هو رائع وجميل.. أخي ليس أبلهاً.. هو ليس أبلهاً.. انفجرت أمي تبكي بحدة أكبر من ذي قبل.. فأسرعت أضمك إلى صدري، وأغادر غرفتها حاملاً إياك رافضاً هذه المؤامرة التي تحاك ضدك.. جمالك كان باهراً، يطغى على أي شيء آخر.

كنت أتكلم معك وأحدثك عن كل شيء يضايقني وأنت مستلقٍ في مهدك لا تفقه كلام الكبار، ولكنك كنت تنظر إليّ وتحدق في وجهي وكأنك تود مشاركتي الحديث والتخفيف عني، وكنت أجلس بقربك أرقب حركاتك وسكناتك لأثبت لأمي أنهم كاذبون في ادعائهم.. كنتَ كثير النوم، قليل الرضاعة، ما حدا بأمي إلى أن ترضعك الحليب الصناعي عندما أعلنت عن عجزها في إقناعك لترضع حليبها، وحتى الحليب الصناعي كان بلعك له ضعيفاً وبطيئاً لهذا بقيت ضعيف البنية في صغرك.

كان لديَّ حلمان في تلك الأوقات: أن أراك تبتسم، وأن أسمعك تنطق بكلمتك الأولى؛ لهذا كنت أداعبك دائماً، وأراقبك جيداً، كنت تتفاعل معي بنظراتك، ولكنك تأخرت في تحقيقهما لي، فأمنيتي الأولى حققتها لي عندما أصبح عمرك أربعة أشهر، أحسست حينها أنني امتلكت الدنيا، ومنَنْتَ عليَّ بتحقيق الأمنية الثانية فنطقت بكلمة "ماما" عندما غدا عمرك سنة ونصف السنة، وعندما غدوت في الثانية من عمرك ناديتني باسمي "مجد".. وكنت في الثالثة من عمرك عندما خطوت خطوتك الأولى في هذه الدنيا، كان لسانك عريضاً جداً فلم تكن تستطيع إبقاءه داخل فمك، وعضلات فمك رخوةً ما حدا باللعاب أن ينساب خارج فمك دائماً، الأمر الذي جعل بقية الأطفال يسخرون منك، ويضحكون عندما يرونك.. كان يصيبني غضب شديد لسلوكهم معك؛ لهذا لم أكن أدعك تخرج إلا معي؛ لأحميك منهم ومن سلوكياتهم المؤذية لمشاعرك.

قرر والداي إرسالك للمدرسة عندما بلغت الثامنة من عمرك، فقد كنت تستطيع الحديث بكلمات مفهومة، وتستخدم الحمام من دون مشكلات، وتستطيع حفظ بعض الأشياء، وهنا بدأت الكوارث تحل علينا تباعاً، فكل يوم كان لا بد من تعرضك لمشكلة، لم يكن أولها رفض المعلمين لك وعدم تقبلهم لفكرة وجودك داخل المدرسة، أما تلاميذ المدرسة فكانت لك معهم حكايات كثيرة، وقاسية جداً، فمرة تعود للبيت ودماؤك تسيل على وجهك، ومرة أخرى ملابسك ملوثة بالطين والغبار، وأحياناً يكون الأطفال الآخرون قد سرقوا طعامك ومصروفك الشخصي، فبقيت جائعاً حتى عودتك للبيت، أو أنهم يكونون قد رسموا على سترتك من الخلف رأس حمار، يجعل كل من يراه يضحك، ليس هذا فقط، بل كل كلمة تنطقها وكل سلوك يصدر عنك مهما كان، كان يقابل بالضحك والسخرية، حتى بكاؤك كانوا يتفاعلون معه بنفس الطريقة المقيتة.. لم يكونوا ينادونك باسمك "واعد"، وكأنه لا اسم لك، إنما "الأبله" أو "السمين" أو "المنغولي"، وكانوا يتندرون على قامتك القصيرة وجذعك السمين.. وغيرها الكثير من السلوكيات التي لا حصر لها، والتي كانت تؤذيك وتؤذيني وتؤذي والدي، وتجعلك تكره الدنيا والمجتمع.. وتجعلني أتمنى لو أنني لم أكن يوماً روحاً حية في هذه الدنيا الظالمة.

وحتى عندما كبرت وأصبحتَ تخرج من البيت لشراء شيء أو حتى لمجرد الترويح عن نفسك، كنت تتعرض لسخرية الناس وأذاهم، فقد طلب منك مجموعة من الرجال ذات مرة أن ترقص أمامهم على أنغام أغنية، وأخذوا يصفقون ويشجعونك على الرقص، فجن جنوني عندما صادفتك بينهم ترقص وهم غارقون في نوبة من الضحك والسخرية، فكسرت مكبر الصوت الذي كان معهم، وشتمتهم، وسحبتك من يدك بعنف للبيت، وطلبت من أمي عدم السماح لك بالخروج.

وأسود يوم في حياتي كان عندما تأخرتَ عن العودة للبيت بعد انتهاء الدوام المدرسي، وكنتَ حينها في العاشرة من عمرك.. فخرجت وأبي نبحث عنك ونطوف بيوت زملائك في المدرسة نسألهم إن كانوا قد شاهدوك بعد المدرسة.. فأشار لي أحد الفتية الصغار بأنه شاهدتك تتجه نحو مزرعة قريبة برفقة طالبين من طلاب المرحلة الثانوية، ذهبنا بسرعة للمزرعة نفتشها، فوجدناك وحدك مقيداً من رقبتك إلى عمود في المكان كما الحيوانات، ملابسك ممزقة، نائماً فوق التراب، شاهدنا آثار اعتداء جنسي عليك، فككنا الحبل، وحملناك للبيت، وقدمنا بلاغاً للشرطة بعد أن عرضناك على طبيب، إلا أن الملف أغلق بعد ثلاثة أشهر وقُيد ضد مجهول.

أصبح الخوف يلازمك، وفقدت شجاعتك في التعامل مع الحياة ومقتنياتها، وبتَّ ترفض الخروج من البيت إلا برفقة أحد منا، رغم الملل واليأس الذي نشب أنيابه في روحك، فجعلك تنعزل وتبكي كثيراً، رغم محاولاتنا الدائمة في التخفيف عنك، فإنك لم تعد ترغب بالبقاء في هذه الدنيا، وكأن لله قد استجاب لرغبتك، فقد أصابك التهاب رئوي حاد، ارتفعت حرارتك معه، وأصابك سعال مستمر، وفقدت شهيتك للطعام، ولم تعد قادراً على التنفس، فازرقّ لونك، وغبت عن الوعي، أدخلك الأطباء قسم العناية المكثفة الذي بقيت فيه سبعة أيام متواصلة، غادرت بعدها الدنيا الفانية وحيداً.

رحلت يا واعد إلى جوار ربك؛ حيث لا ظلم، ولا أذى، ولا معاناة.. فإلى جنة الخلد يا واعد.. وسامحني يا أخي الحبيب.

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد