صباح القنوات

إن المذيع أو المراسل للمعلومة الصحيحة كالمعلم، وليس هو محرك لعرائس خيال المآتات، هو الماركة لتقدم المحطة أو سوء الإخراج. حقاً هناك بعض البرامج الهادفة كبرنامج "من سيربح المليون"، أو المناظرات الشعرية والأدبية والدينية، وغيرها مما نطلب ونتمنى.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/09 الساعة 00:23 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/09 الساعة 00:23 بتوقيت غرينتش

عندما أكمل الفجر تنميق صباحه، فتحت العين ككلمة مستترة، أو كحرف سكون صامت، وفي ركن عزلة قواعد المكان، وأمام التلفاز، ارتأيت القيام بتجوال في شوارع المحطات؛ لعلي أستحوذ على فكرة مفيدة، أو معلومة قيمة؛ لأشتريها، أو أطلع على خبر أو بحث علمي، أو براءة اختراع؛ لأضمها إلى مخزون الثقافة على رف الحياة.
مررت على محطات ووقفات لأكثر من ساعات، بدأت بالعربية لشغفي بكل ما يشير إلى الأصل والأعراق، وانتهيت إلى اللبنانيات والمصريات وغيرها من ألعاب الدمى والجهالة على محرك القنوات، تساءلت: هل تلك المحطات والبرامج تعكس واقع الفكر العربي، ومتطلبات العصر الدامي والانحطاط الفكري الذي نشهده مع كل نفس وكل زفرة تجود بها الخلجات؟

هل تلك الشخوص على مسارح العبطة والهبل والزيف هي حقاً تمثل من كانوا خير أمة أخرجت للناس؟ والله حرام..وعار تقبل تلك البرامج الهابطة، العاصفة، الهاوية، الفاقدة لإيجابية الأهداف، الخاوية من أي بصمات.

ليس لجيلنا، فقد تجاوزنا طرقات الزمان، ووقفنا على العتبات، ولكن لتلك الأجيال الواعدة، التي تمثل العولمة وتقود مستقبل نهضة الشباب.
أين وزارات ورجالات الإعلام؟ وما مواصفات رجل الإعلام؟

لقد كان أديبنا طه حسين ممسكاً بحقيبة الإعلام في مصر، وكذلك شاعرنا نزار قباني بسوريا، وكذلك أدباء مشهورون بالعراق.
ألا يجدر تعيين الأدباء وضليعي اللغة والشعر بالمشاركة في أخذ دور في بوق الإعلام، وليس فقط نجوم الغناء والرقص، وممثلي المسلسلات.
عليهم تصحيح الإملاء واللفظ والأخطاء، ورسم البرامج الهادفة الغنية الزاخرة بالبحوث العلمية التي تفجر الكامن، من طاقات الإبداع، والاختراع، وتسيل أنهار مبادرات الإنتاج في حقول العلم والثقافات، فالغياب تام لتلك البرامج والأبحاث.

إن المذيع أو المراسل للمعلومة الصحيحة كالمعلم، وليس هو محرك لعرائس خيال المآتات، هو الماركة لتقدم المحطة أو سوء الإخراج.
حقاً هناك بعض البرامج الهادفة كبرنامج "من سيربح المليون"، أو المناظرات الشعرية والأدبية والدينية، وغيرها مما نطلب ونتمنى.

وحقاً هناك بعض الناقلين للكلمة الصادقة الهادفة، وهم قلة من كثرة، ولكن هناك مخرجون ومذيعون وإعلاميون كالأطباء، يعالجون ضروس عقول الإنسانية بطلاء هش جميل ملون، وديكورات منمقة براقة، ولكنه كاذب مزيف، والنتيجة أضراس مريضة معتلة.. أو يعالجون بحشوات دائمة متينة؛ لتدوم صحة العقل ودوام عافيته، ومعالجة خلله وعلله وعسر هضمه، فالعقل الإنساني كالضرس يحتاج لرعاية واهتمام ليكون مشعاً، صحياً، براقاً، ولكن الفرق بينهما أن الأول لا يمكن قلعه وزرع غيره كالثاني، وبالتالي لا بد دوماً من قدح شرارات مفيدة تشعل حجراته وتضيء زوايا ذاكرته، وتنظف نخراته وعلاته، وتملأ مخيخاته بحشوات من العلم والثقافة.

ففي عصر تنهض به قوافل إفريقيا من دياجير الجهل وأدغال التخلف؛ لتلاحق الزمان، وتتوثب نمور آسيا؛ لتحجز لها مكاناً في غابة تقدم الأمم وعلو أغصان الرقي على أشجار التنمية والنهضة لعولمة ترعد وتبرق، وتمطر بيانات ومعلومات؛ لتزرع بها نهضة تتخطى بها مرحلة الدول النامية، وتتجاوز بها عالم الوقوف في الصف العاشر من عالم الدول الخائبة.

وفي عصر تطفئ دول أميركا الجنوبية آخر نيران حروبها في كولومبيا، وتتنافس دول المعسكر الغربي على موطئ قدم لها في عصر الأفاتار والطباعة (3d).

وبينما تحصل هذه التغيرات، يستحضر العرب حرب البسوس، وداحس والغبراء، وغيرها من حروب استمرت حوالي ثلاثة قرون، ناهيك عن نيران وصراعات عبثية وجودية، قسمت البلاد، وزرعت الفرقة والعصبية بين الأعراق والأديان:

140 سنة حرب الأوس والخزرج.
77 سنة حرب بني أصفهان.
40 سنة حرب البسوس.
40 سنة حرب داحس والغبراء.
4 سنوات حرب الفجار.

ثلاثة قرون ضيعها العرب على الحروب فيما بينهم، واليوم نجدهم يضيفون المزيد والمزيد من سنوات الحروب والاقتتالات العبثية من تخطيط قوى خارجية، هدفها خلط الأوراق، وتغيير التفكير، والتكفير بكل قيم القديم.
في سوريا ومصر والعراق وليبيا ومصر واليمن وفلسطين، ذاكرة المدن والمدائن ضاعت، وسلبت، وانتهكت وجمدت، والمخططات طبعت ونفذت، ونحن نتبعثر ونتهجر ونغرق، ثم نلهو ونتصور.
وهل يوجد مصير مرعب أسود أكثر؟!

ما أغرب التاريخ وهو يعيد توقيعه! والفكر يسقط وينحدر!
والمروءة تغرق وتنتسى!.. والملف يهمل ويحترق لقضية كانت بالصدارة.
ونحن جمهور جاهل، يرعى كالخراف في بساتين اللهو والتسلية، حتى يحين موعد الذبح، ونخلط مسارب التحرير بالتخدير، فالجهل مدقع.
ألستم معي في أن هناك حملة ممنهجة لسلب عقول الأجيال؟

ألا تعتقدون أن هناك خطة مدبرة مقصودة لزرع الشك والفوضى في العقل العربي وتحطيمه؟!
فبعد سلب منجزات ومقدرات الأمة وثروات الأوطان.. جاء دور تحويل وتمييع أفكار الشباب الواعي وجرهم لمهاترات وحروبات فيما بينهم.
ولكي نفقد الإيمان في كل منجزاتنا وموروثاتنا الحضارية وديننا المسالم وزرع الحيرة والخوف بيننا.. وما تلك البرامج الغبية إلا لتسخيف عقولنا وتشتيت أفكارنا، وتلهية الأمة عن أخذ دورها الوطني للحفاظ والغيرة على الأوطان، وأكملوها في تغيير المناهج وتدويرها بما يناسب خططهم ومؤامراتهم للهيمنة على البلاد.

لماذا لا نحذو ونتعلم مثلاً من بلاد كاليابان وتايوان التي تفتقر لثروات مهمة، ولكنها نافست العالم المتحضر، بل وسبقت على سجادة التنمية والتقدم، بعقول وانضباط أبنائها وحسهم ووعيهم وإخلاصهم الأخلاقي للعمل وللوطن وللفرد والجماعة.
سأعطيكم مثالاً على ما رأت عين سمعي وأنقل لكم تأثيرات شحنات فكري من فوضى الحواس، وما رأت من أشباح تتكلم لغات وما هي بلغات.. وأنتم الحكام.

يكفي أن نتابع حلقة واحدة من برنامج صباح العربية كل صباح، حتى نفهم حملة التجهيل والتسفيف لأجيال متتابعة من الأبناء، أو الاستماع لعادل في المحطة اللبنانية أو صباح في الحياة المصرية.
أول فقرة في البرنامج تستعرض الحلويات التركية والفارق بينها وبين تلك العربية، ألا يكفي مسلسلاتهم التي أكلت عقول مشاهدينا وأوقاتهم، وانحرفت بقيمهم وعاداتهم وموروثاتهم؟! وفي دائرة مستديرة تظن فيها لجدية واهتمام نبرة المذيع والمذيعة، إنهم يديرون جلسة عصف ذهني لإيجاد حلول لمشاكل وتحديات الأجيال العربية في حين تتضور أجيال كاملة جوعاً وقهراً في مخيمات البؤس والشقاء العربية.

أما ثاني فقرة فهي لمراسل يدعي التبصر بالفصاحة وظل الفهم، يفاخر بزيارته السياحية لبلد أوروبي، ويعطي نصائح سطحية لبعض المحظوظين الميسورين، على أي شاطئ، كيف يستجمون! وكيف يتناولون شطيرة باريسية! وأين يتسوقون! وكيف يتسكعون في حارات وشوارع ومطاعم لندن، في الوقت الذي ينام فيه الأطفال الهاربون من نار القذائف، والمهمومون والمهجّرون من سوريا وغيرها، ينامون في العراء على شواطئ سكة حديد هنغاريا في رحلة عذاب وشقاء، إلى الأرض الألمانية الموعودة، أو يغرقون ليكونوا طعاماً ليناً لأسماك في مقبرة مياه وشواطئ البحر المتوسط، فهجرتهم متلاحقة دون عودة متزامنة.

ثالث فقرة هي لمراسل برداء ملون، ورينبو مقزز، وشعر مبعثر يفحمك بتفاصيل محنة كيم كارديشيان في فرنسا، وبيونسيه في أميركا، في الوقت الذي تدمر فيه عاصمة سيف الدولة الحمداني وأيقونة سوريا الشهباء تدميراً منهجياً على يد مغولي الغرب والشرق، وبمساعدة حشاشي وكواسر العصر!

أما رابع فقرة تتكرم فيها دلوعة التجميل بسرد آخر نصائح الميك أب والتاتو قبل صيف الأعراس، في حين تنزف القدس والأقصى سيولاً من أصباغ الدم الأحمر والأزرق وكل الألوان، التي تتشكل على أجساد أطهر أبنائها على يد قتلة الأنبياء.
خامس فقرة تتحدث فيها مبتكرة الأزياء عن صيحة الأقمشة الرخيصة المستوردة من الصين وكيف تفتق ذهنها المبتكر عن تطعيمها بكتابات عربية أنيقة لتباع عباءات بمئات الدنانير أو تنميقها بكريستالات سويسرية تتسابق سيدات المجتمع الراقي على اقتنائها بأسعار جنونية على غرار "رزق الهبل على المجانين".

أما آخر فقرة فقد كانت لرجل بدوي، يفاخر باقتنائه صقراً أصيلاً بمئات آلاف الدنانير، في مزاد علني لعقول تهوى التصاوير!
أو يهنئ بها المراسل رجلاً هندياً لاقتنائه رقماً نادراً لنمرة سيارة، ليبيعه بالملايين لمن هوايتهم شراء كل رقم فريد.. هل النقود من تجارة وحلال؟ أم من غسيل الأموال؟ الله أعلم.. وافد يبيع.. ومواطن يشتري النفيس.

هذه هي حملة التجهيل لخلق أجيال من رويبضة في رويبضة، الجهالة لرعاة التسخيف، والجهالة لدفن الوعي والحس القومي، ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم.

طاب النوم في كهف الجاهلين!
صدق الشاعر ابن الرومي:

دهر على قدر الوضيع به ** وترى الشريف يخطه شرفه
كالبحر يرسب فيه لؤلؤه ** سفلاً وتعلو فوقه جيفه

ملحوظة:

التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد