عندما أقارن طفولتي المبكرة في كرداسة بالجيزة بمصر وطفولة ابني في بروكسل ببلجيكا، أشعر وكأنني قادم من العصر الجاهلي، ولم أصل بعد إلى عصر الحداثة، فما بالك بما بعدها!
وأظن أن قليلين في كرداسة الآن هم من يتذكرون كيف كانت الحياة فيها قبل أن تعرف الكهرباء، ولم تمتلئ بعد بالأغراب ولا بالجماعات الإسلامية، وأظن أن جيلي هو آخر جيل يتذكر كيف كانت المذاكرة على لمبة الجاز، وكيف كان جمال الفوانيس وروعتها في ليالي رمضان المظلمة وكيف كان وقع طبلة المسحراتي في تلك الليالي الصامتة.
ولا أظن الأجيال الجديدة تعرف كيف كنا نقضي ليالي الشتاء دون تلفزيون وإنترنت، فقط الحواديت والحكايات هي سلوتنا قبل النوم، ولا كيف كانت حكايات الجن والعفاريت وأُمنا الغولة تنيمنا من الخوف والرعب، ومع ذلك نحرص على الاستماع إليها كل ليلة، ونلح في طلب المزيد منها، وفقط فيما بعد عرفت أن أغلب هذه الحكايات موجود بصيغ مختلفة في "ألف ليلة وليلة".
وكان بالقرب من بيتنا طاحونة قديمة خربة كانت مركز الرعب الأزلي بالنسبة لنا، وكنا نهاراً نبحث فيها عن العفاريت الصغيرة النائمة كما يبحث الأطفال الآن عن "البوكيمون غو"، أما ليلاً فكان الرعب هو أن تمر قربها، وإذا فعلنا نقول لمن فيها بصوت خفيض: "السلام عليكم ورحمة الله وبركاته"، وكنا نتوقع في أي لحظة أن نسمع الجملة المأثورة: "لولا سلامك سبق كلامك لأكلت لحمك قبل عظامك"، وعندما اشتراها أحدهم وبنى عليها بيتاً كانت الكهرباء قد وصلت لدينا وقضت بوصولها على عالم كامل من الفنتازيا والخرافات.
وحتى الآن كلما زرت كرداسة ومررت بهذا البيت أشعر وكأن جزءاً كبيراً من فنتازيا الطفولة قد دفن تحته، وبعد أن وصلت الكهرباء في أول السبعينات لم تختفِ قصص الجن والعفاريت من حياتنا؛ حيث بدأنا نتتبع قصص الممسوسين والمتكتفين.
وبدأنا نسمع عن فلان وفلانة ممن يقومون بالسحر الأسود، وكان معظم الفلاحين ممن أعرف يعتقد أن الرهبان الأقباط خبراء في السحر الأسود، ولكنهم ينكرون، وبعد ذلك قرأت في الكتب أن تسعة أعشار السحر الأسود مصرية قديمة، وعرفت أن أغلب كتب السحر في التراث العربي مترجمة عن القبطية، كما يقول ابن النديم في "الفهرست".
هذا عني، أما ابني فهو كما سبق يعيش في بروكسل ببلجيكا، ويذهب لمدرسته لعشرة أشهر في السنة من الثامنة صباحاً حتى الرابعة مساء، وهناك يدرس كل شيء تقريباً من اللغات والرياضيات والعلوم وحتى السباحة والموسيقى والرقص، ويمكن أن يختار للتدريب أي شيء آخر إذا أراد، لا بد أن أكتب مرة عن هذا كله بالتفصيل، وهو الآن يزور دورة مبتدئين ليعرف كيف تُصنع الأفلام، كما أن لديه اهتماماً كبيراً بثقافته العربية الإسلامية.
وأذكر عندما ظهر فيلم الأنيميشن "آزور وأسمر" Azur et Asmar للمخرج الفرنسي ميشيل أوسلو Michel Ocelot وهو لمن لا يعرف يدور حول عالم الجن والعفاريت في التراث العربي من خلال ولد أوروبي، إسباني على الأرجح، اسمه "آزور" يشارك ولداً مغربياً، هو بمثابة أخ له من الرضاعة، اسمه "أسمر" في مغامرة خطيرة تدور في عالم الفنتازيا، وذلك لتحرير أميرة الجن المحبوسة كي يتزوج بها أول من يصل إليها منهما.
أُعجب ابني بالفيلم لدرجة أنه كان يراه مرة أو مرتين في اليوم الواحد، ومن كثرة استماعي للفيلم حفظت حواراته عن ظهر قلب، مما ساعد على تحسين لغتي الفرنسية، وأذكر أن حماتي زارتنا مرة فاستمعت لهذا الفيلم أكثر من عشر مرات خلال أسبوع الزيارة، وفي آخر يوم من الزيارة نظرت إلينا وقالت: "أنا أكره هذا الفيلم".
وبعد ذلك سألني ابني إن كنت أعتقد بوجود الجن والعفاريت، فقلت له "بالطبع أعتقد بوجودها وهذا شيء ثابت بالقرآن ولا يمكن لمسلم إنكاره"، فسألني إن كنت أنا شخصياً قد رأيت جناً من قبل، فأنكرت ذلك، فقال إن كان أحد ممن أعرف رأى شيئاً فقلت له "أبي -أي جدك- زعم مرة أنه رأى شيئاً وهو ذاهب إلى عمله ليلاً".
سكت الولد قليلاً فخطر لي، في هذه الليلة التي لا أنساها، أن أنقل إليه شيئاً من تراث الأجداد، فحكيت له بعض حكايات أهل كرداسة عن الجن والعفاريت وأُمنا الغولة، ففزع ولم يستطع النوم لليلتين متواليتين، فكان لا ينام إلا إلى جواري والنور مضاء!
وفي الليلة الثالثة قال لي: "لن أذهب لكرداسة أبداً"، فقلت له "كرداسة الحواديت لم تعد موجودة فكيف نذهب إليها؟!".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.