واقع القراءة، والثقافة في عالمنا العربي لا يخفى على أحد من حيث التقهقر والتراجع في المحتوى والمستوى، ويتشابه مع الواقع العلمي والتعليمي والسياسي والاقتصادي والاجتماعي في التردي الذي أصاب العالم العربي في عصوره الأخيرة؛ بعد عصور النور الطويلة، التي تميزت بازدهار الفكر والثقافة، وانتشار الترجمة والطباعة، وكثرة المؤلفين والمؤلفات القيمة.
والإنسان ابن بيئته. لذا، فقد ساعدت عصور النهضة العربية والإسلامية على ولادة طبيعية لعدد كبير من المفكرين والأدباء والشعراء والكُتَّاب والعلماء؛ الذين أبدعوا في التخصصات كافة، فذاع صيتهم، وعمَّ علمهم، وطال عمرهم بعد رحيلهم سنوات، وأبقاهم تراثهم الفكري، وإنتاجهم العلمي أحياء في ذاكرة الأمة الحية، وفي عقول شبابها النَّهِم للقراءة، وفوق رفوف المكتبات العامة والخاصة.
ثم بدأ التراجع الفكري والثقافي مع التراجع الحضاري والسياسي للأمة، إبان الاحتلال الأجنبي وعهود الانقلابات العسكرية. فزهد الناس في القراءة والبحث في الكتب، وقلّت الترجمة والتأليف. وبالتوازي، انتشرت وسائل الإلهاء والإغراء وحب الراحة، لصرف الناس عن الجد والعمل، وعطَّلت إعادة الإحياء لمشاريع عمالقة الفكر والأدب، ووضعت العراقيل أمام إخراج تراثهم الفكري والأدبي الكبير من تحت ركام الغفلة والنسيان إلى الأجيال الجديدة، والأزمنة الحديثة.
وكان من محنة الأمة، نسيان عصور النهضة واعتبارها تاريخاً مقبوراً لا حاضراً منبوشاً، وإحلال لاعبي الكرة، ونجوم السينما محل علماء الأمة ومفكريها وأدبائها في ذاكرة الشعوب، وتقدمت القَدم على العقل، والفُرجة على الممارسة، فحفظت أجيال الشباب العربي أسماء اللاعبين والممثلين أكثر مما حفظت من أسماء علمائها ومفكريها! وازداد إنفاق المال على شراء تذاكر المباريات، ومقاعد قاعات السينما، أكثر بكثير مما أُنفق على شراء الكتب وإقامة الندوات العلمية والثقافية.
وفي إحصائية لـ"اليونسكو"، نجد أن العالم العربي أصدر 6500 كتاب عام 1991 مقابل 102000 كتاب من أمريكا الشمالية، و42000 كتاب من أمريكا اللاتينية والكاريبي، وكانت نسبة إنتاج الكتب في البلدان العربية 1.1% من الإنتاج العالمي، رغم أن العرب يشكلون 5% من سكان العالم. وعدد الكتب الأدبية الصادرة في البلدان العربية لم يتجاوز 1945 كتاباً في عام 1996، مما يمثل 0.8% فقط من الإنتاج العالمي، وهو أقل مما أنتجته تركيا التي لا يتعدى سكانها ربع سكان البلدان العربية.
وعن توزيع الكتب: تراوحت عدد الروايات والقصص القصيرة المطبوعة في العام نفسه ما بين 1000 و3000 نسخة، ويعتبر الكتاب الذي يوزع منه 5000 نسخة نجاحاً باهراً، على الرغم من وجود أكثر من 284 مليون عربي يتحدثون اللغة العربية في 22 دولة.
يقول إبراهيم عبد القادر المازني: "أبناء اللغة العربية أكثر من 100 مليون، وأن من هؤلاء نحو 10 ملايين يقرأون ويكتبون، فكم من هؤلاء يقرأ ابن الرومي والمتنبي والمعري والشريف وأبا تمام والبحتري وأبا نواس وغيرهم؟ لا أكثر من بضعة آلاف قليلة! وجُلُّ هؤلاء يقتنون الكتب كما يقتنون التحف ويرصونها للزينة لا للاطلاع، ويتخذونها كما يتخذون السجاجيد والزهريات والصور. والذين يفتحونها، للتسلي وتزجية الفراغ، والأقلون هم الذين يُعنَون بالدرس والتحصيل؛ فهم في هذا العالم العربي الطويل العريض لا يعدون بضع مئات".
وكان من دواعي الدهر، غياب أو تغييب هؤلاء المفكرين والأدباء والشعراء والعلماء عن عقول وذاكرة الأجيال التي نشأت دون أن تعرف عنهم شيئاً، ولكن "خلود الأديب في أخلاد الناس ليس معناه أن السواد الأعظم منهم يعبأون به؛ بل معناه أن قلة ضئيلة هي التي يرجع إليها الفضل في بقاء اسم الأديب مذكوراً وآثاره منشورة"، كما يقول المازني.
هذه القلة الضئيلة القارئة هي التي تقف كصخور الصد أمام قوة أمواج النسيان، لتحفظ معاني الخير والحكمة والحق والجمال، التي تحويها بطون الكتب والمؤلفات، كما تحفظ أسماء هؤلاء الكوكبة من المفكرين والأدباء والشعراء من الاندثار والغياب؛ بترديد أسمائهم وكلماتهم التي يشبّهها سيد قطب بعرائس من الشمع، حتى إذا ماتوا في سبيلها دبّت فيها الروح و كُتبت لها الحياة.
إن الأدباء والشعراء والمفكرين وتراثهم الكبير وكتبهم القيمة في أمسّ الحاجة إلى هذه القلة؛ لتحمل تلك الأمانة إلى أجيال الأمة، وتحفظ لهؤلاء سيرتهم الأولى وتاريخهم العظيم.
ووسيلتهم يشرحها المازني: "لا يزالون يقرعون الطبول باسمٍ من الأسماء ويلحّون به على الناس حتى يوقظوا النفوس لهذا الاسم ويوحوا إليها أن صاحبه جدير بالذكر وأن آثاره تستحق الاقتناء. ومن كان لا يصدق فليسأل نفسه: هل شهرة المتنبي مثلاً ترجع إلى تعلُّق رجل الشارع به؟ أليس الواقع أنه لو كانت شهرته رهناً بعناية الرجل العادي به لما طال عمرها أكثر من بضعة أيام؟ والمتنبي مع ذلك أشهر شعراء العرب، وديوانه يعاد طبعه كل بضعة أعوام مرة، ولكن كم نسخة تُطبع من ديوانه في كل مرة؟ ألفان.. 3 آلاف.. 4 آلاف؟! في عالم عربي يبلغ عدد القراء فيه 10 ملايين! فما ظنك بحظ الذين هم أقل منه شهرة؟! وتمتاز هذه القلة بالعشق حتى الجنون للأدب والعلم والشعر. فهذا الجنون هو الذي حفظ ونقل هذا الإرث العظيم إلي يومنا هذا، وحفظ على الأدباء والشعراء والمفكرين ذكرهم وشهرتهم. كما حفظ جنون العشق بين عروة وعفراء، وجميل وبثينة، وقيس وليلى قصصهم".
و"هؤلاء المجانين القليلون هم الذين ينقذون الشهرات من الفناء ويبقونها حية جيلاً بعد جيل؛ فإن لكل جيل مجانينه الذين لا يزالون يبحثون وينقبون حتى يعثروا على عظيم مقبور كما يفعل المنقبون عن آثار المدنيات التي عفى عليها الزمن، لا يعروهم فتور ولا يدركهم وني؛ حتى ليكاد المرء يعتقد أنه لا خوف من بقاء عظيم مدفوناً وحقه مهضوماً وفضله مطويّاً أو مجحوداً، وقد لا يكون في هذا ما يعزّي العظيم، ولعله شبيه بمنح القتيل في ساحة الحرب وساماً على سبيل الاعتراف ببسالته، والشهادة بحسن بلائه، ولكنه على كل حال يُجدي بأن يمنع اليأس من إنصاف الدنيا ولو بعد الأوان"، كما يقول المازني.
ويرى أن بقاء هذه الشهرة تعود للقلة المتحمسة المجنونة، لا للكثرة التي لا تلبث أن تذهل عمَّا أحبت ومن أحبت. وأن هؤلاء المجانين الذين لا يخلو منهم زمن يقولون للكثرة 10 آلاف مرة أو 20 ألف مرة: إن فلاناً عظيماً وحقيقاً بالذكر والتخليد، فتصدق وهي لا فاهمة ولا مدركة. ثم يقصد البعض إلى المكاتب ويشترون الكتب والدواوين ويضعونها على الرف وهم فرحون باقتناء هذه التحف التي آمنوا بأنها خالدة وأنها أبقى على الزمن من الزمن.
والعشق ليس كله ممنوعاً، والجنون ليس كله شر.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.