ما الكتاب الذي قرأته وما يزال ماثلاً بالذاكرة؟
يدفع بي السؤال إلى ركام من العناوين والأسماء؛ لكن عند رواية "الساعة الخامسة والعشرين" للكاتب الروماني قسطنطين جيورجيو التي حازت جائزة نوبل في الآداب؛ لكونها تدفع إلى كثير من الأسئلة حول مصير الإنسان المعاصر، المنسيّ في الذل والحروب. وأنا شغوف بالقراءات التي تلقي الأسئلة، وتحثّ على التفكير، ولعل "الساعة الخامسة والعشرين" أحد أكثر الأعمال السردية الباعثة على أسئلة حول المصير المأساوي للإنسان، فالقراءة ليست فقط غوصاً في عالم افتراضي، إنما هي نحْت في الصخر بحثاً عن القضية التي تقبع في ثنايا الأحداث.
كثير من الروايات يتلاشى حضورها من الذاكرة بمرور الأيام، وتصبح استعادة أجوائها صعبة، وربما شبه مستحيلة، وقليل منها يدمغ الذاكرة بختمه الأبدي، ومن ذلك القليل النادر رواية "الساعة الخامسة والعشرون".
منذ 2011 والأحداث في عالمنا العربي تتوالى بعنفها وصخبها كموجات محيط مضطرب، كلما شعرنا بأن الأمور بدأت بالاستقرار سرعان ما اختل توازنها مرة أخرى حتى جاء علينا حينٌ من الدهر شعرنا بأننا تجاوزنا "الساعة الخامسة والعشرين" التي يتحدث عنها كونستانتان جورجيو في روايته التي ترصد ما شهدته أوروبا في الحرب العالمية الثانية من مآسٍ.
إن ما يجعل من الأدب جزءاً من الحياة، أنه حافظ للتراث موثِّق للحاضر، وفي الوقت نفسه يتوقع المستقبل ويتنبّأ بأحداثه، فالأدب ليس مجرد قصص رومانسية وتخيلات غير واقعية. وفي أحداث روايتنا هذه توثيق لتاريخ لم تكتبه الصور ولم تسجله الأفلام ولا أقلام المؤرخين، لكنه يجوب بنا في قلب أحداث مروعة ويدخلنا في مناطق موغلة السرية والخطورة، تجعلنا ندرك معنى الحياة فوق خطوط النار، وفي قلب أتون الموت. إن هذه الرواية حية، ما زالت نابضة كألم عميق، في قلوب كل من عاشوا الحروب، وما زالوا، لأنها عرّت الوجه الحيواني للروح الإنسانية. إنها فوضى العقل، والعاطفة، والمناهج المضللة، والنواميس الجوفاء.
تساءل صموئيل يوماً قائلاً: "كيف يمكن لنا الحديث في هذا العالم دون أن يكون لنا وزن أو قوة؟ وماذا نقول عن المساحات التي تختفي، والحدود التي تهتز، والتوازنات التي تنهار من لا شيء ثم تعاد لمح البصر؟ ثم يجيب قائلاً: "إنه الأدب" – تلك الشرارة التي تسبق أي نهضة علمية أو اجتماعية، فالأدب حياة لا مهنة، لا بد من صيانتها؛ لأنه يجعلنا نعيش حياتنا مرتين.
يبدو أن وقع خطى حياتنا اليومية يتسارع باتجاه الساعة الخامسة والعشرين، حيث تختلط الأوراق والأقدار وبات الإنسان يسير مسرعاً باتجاه الحافة بعد أن أصبح صوت الحرب هو إيقاع الزمن.
بدأت بقراءة الرواية بصيغة الحاضر، رغم أن الكاتب اختار الحرب العالمية الثانية كإطار زمني لروايته، إلا أنني كنت أقرأ الرواية بصورة الحاضر والموت يحدق فينا من كل اتجاه، وأنا أستشعر شخوصها في واقعنا العربي البائس.
اما لماذا سميت بالساعة الخامسة والعشرين؟
الرواية تشعرنا بأن المأساة لا تعرف شخوصها، فما إن يتخلى الإنسان عن إنسانيته حتى تصيب الجميع، أو كما يقول جيورجيو على لسان تريان: "لقد أشرف العالم على دخول ساعته الخامسة والعشرين؛ وهي التي لن تشرق الشمس من بعدها على الحضارة البشرية أبداً، ولن يحل بعدها يوم جديد. إنها الساعة التي سيتحول فيها البشر إلى أقلية عديمة القدرة على التفكير، لا وظيفة لها غير إدارة جحافل الآلات وصيانتها وتنظيفها".
إنها ساعة المواجهة حين يستفيق الإنسان على خرابه لكن بعد فوات الأوان، هي الساعة التي لن تفيد فيها أي محاولة للإنقاذ، هي الثقب الأسود الذي سيغيّب الإنسان لتطغى الآلة.
العنوان لا يشير إلى ساعة معينة كلحظات الاحتضار ومعاناة النزع الأخير، لكنها عبارة رمزية يعبر بها عن حالة من أقسى أحوال القهر والمهانة والعذاب في الحياة، فعالمنا يسير سيراً أعمى، ونحن نمضي غارقين في أتون الحروب والصراعات والصدامات بعد أن دخلنا "الساعة الخامسة والعشرين" إنها ليست الساعة الأخيرة؛ بل هي بعد الساعة الأخيرة.. إنها الساعة التي لا جدوى فيها من أي محاولة للتخلص من العذاب.
يبدأ الكاتب فيها من قرية صغيرة في رومانيا، بطل الرواية "يوهان موريتز" عامل زراعي يعيش في القرية مع زوجته الجميلة. ومالك الأرض التي يعملان فيها دبلوماسي وكاتب معروف اسمه "تاريان كوروجا". أُعجب ضابط البوليس بزوجة المزارع الشاب وقرر الحصول عليها، فاعتقل الزوج دون أي سبب ليواجه ألواناً من المذلة والعذاب.
وعند احتلال القوات النازية رومانيا، يستمر اعتقال الضحية وتعذيبه للاشتباه في أنه عدو. ويحاول الهرب مع سجناء آخرين، ويتعرض للاعتقال والتنقل بين عدة معسكرات للعمل في رومانيا وهنغاريا وألمانيا. وحين يتبين لأحد الضباط النازيين أنه شخص بسيط يأخذه للعمل في مصنع للأزرار، حيث يواجه صعوبات ومتاعب جديدة، فيغفل لحظة عن عمله في ترتيب علب الأزرار استعداداً لشحنها، فتتعطل الآلة ويؤدي ذلك إلى توقف المصنع، ويكون جزاؤه أن ينال عقاباً قاسياً.
وفي أحد هذه المعسكرات، يلتقي بالكاتب "كوروجا" الذي كان قد اعتقل في يوغسلافيا، وهو يعمل على كتابة رواية بعنوان "الساعة الخامسة والعشرين"، يقف فيها ضد استعباد الإنسان وتحويله إلى آلة. لكن هذا الكاتب ينتحر في معسكر أميركي في بولونيا. أما "موريتز"، فتعتقله القوات الأميركية من جديد بتهمة تعاونه مع النازيين، ثم يضعونه أمام أحد اختيارين: إما الانخراط في الجيش الأميركي والقتال معهم وإما البقاء في معسكرات العمل.
الرواية شبكة من العلاقات والصراعات المتقاطعة، أحداث تجري بصورة عفوية حيناً، وبصورة كيدية مريبة أحياناً أخرى. وقد اختار الكاتب أكثر شخوصه من مجتمعه القريب، من أهله وأصحابه الذين جرفتهم مأساة الحرب العالمية الثانية فخاضوا أهوالها مدفوعين بكل ما فيها من تناقضات في الرؤى والانتماءات والمصالح. وهو يتخذ من تلك الحرب الطاحنة مسرحاً لروايته، وقد لقي فيها عشرات الملايين مصرعهم، وكان المستفيد الوحيد أصحاب مصانع الأسلحة في أوروبا وأميركا.
وبقدر ما يكشف هذا العمل الفني الكبير المظالم التي لقيها الضحايا، أمثال موريتز، من جميع الأنظمة النازية والشيوعية وحتى الأميركية، فإن استعباد الآلة للإنسان يهدد مستقبله كله. ولعل نهاية الأرانب في الغواصات تعطي فكرة رمزية موجزة ومعبرة عن هذه المأساة.
يقول أحد شخوص الرواية إنه مر بتجربة في جوف غواصة، حيث أمضى نحو 1000 ساعة. وفي الغواصات الحديثة جهاز لمعرفة الوقت المحدد لتجديد الهواء الفاسد، بينما كان البحارة في الماضي يأخذون معهم في الغواصة أرانب بيضاء، فإذا فسد الهواء وقلت نسبة الأكسجين ماتت الأرانب.
وبهذه الطريقة، يعرف البحارة أنّ الوقت الباقي لهم لا يزيد على 5 ساعات، فإما أن يصعدوا إلى السطح لتجديد الهواء وإما أن يلقوا مصيرهم المحتوم في الأعماق. وفي حال البقاء، كان على أولئك البحارة أن يقتل بعضهم بعضاً بالرصاص، تجنباً للاختناق أو الوقوع أسرى في أيدي الأعداء. ويرى الكاتب أن الغرب يعمل على تحويل البشرية كلها إلى أشباه أرانب في غواصات.
حرائق شتى تندلع على صفحات الرواية، وأسئلة شائكة تَخِز العقل والروح وتُدمي الإنساني فينا، فشخصيات الرواية تتشابك وهي تنتقل من حال إلى نقيضه؛ إذ تصبح الضحية جلاداً والجلاد ضحية.
عشت تجربة قاسية في أثناء قراءة الرواية وسيْطر عليّ ذهول تحول إلى حزن، فقد عشت تجربة القراءة كأنها وقائع مررت بها، أعترف بأنني غير قادر على تجميع أحداث الرواية في أسطر، فالأحداث أبهرتني حد الإرهاق بمرارة وشوق متلازميْن. إنها رواية تفصيلية، دقيقة، تحليلية، عن الحرب العالمية الثانية ومآسيها وأنماط الاضطهاد العرقي، والتمايز الديني، والمذهبي، والسياسي فيها.
الحكيم الصيني لاو تسو في كتابه "الفلسفة الطاوية" يقول: "لا يوجد جمال حتى في النصر، وذلك الذي يسميه جميلاً هو مِن أولئك الذين يجدون السرور في المذابح. والذي يجد السرور في المذابح لن ينجح في طموحه الهادف إلى السيطرة على العالم.
إنَّ تأوهات حزينة رافقت، ولا بد، الجماعات المذبوحة، لذلك، ينبغي أنْ يُحتفل بالنصر، حسب الطقوس الجنائزية".
حين انتهيت من قراءة الرواية، لست أنا كما بدأت..
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.