قضية الرق والعبيد وسبق الغرب في العصر الحديث لإلغائه، قضية تطرح دوما من باب التشكيك في موقف الإسلام من حرية الإنسان، ومدى جدية موقفه من هذه الحرية، وإن كان الموضوع أصبح في إطار الماضي، لكنه يثار في الحاضر دوما من باب الطعن في الإسلام، وكثير من الكتاب تناول هذه القضية سواء في باب من أبواب بعض الكتب التي ترد على مطاعن المستشرقين في الإسلام، وقليل من أفرد لها كتابا – كبر أو صغر حجمه – لها، ومن أفضل الكتب التي أفردت لهذا الموضوع كتاب: (مستنقع العبيد والجواري وتجفيفه في القرآن) للدكتور مصطفى الزلمي.
بدأ الدكتور مصطفى الزلمي كتابه بباب عن تاريخ الرق لدى الأمم السابقة قبل الإسلام، وكيف كان يتم تحويل الإنسان الحر إلى عبد رقيق، يباع ويشترى، وكيف يتم استرقاقه، وكان ذلك بعدة طرق، وهي: إما الأسر في الحرب، أو من ولد لأبوين من العبيد، أو في بعض القوانين: من يجرم جرما يحكم به على الجاني بتحويله من الحرية للرق، مثل السرقة والزنى، والهروب من التجنيد. ومن كان مدينا ولم يسدد دينه، يتحول لعبد لصاحب الدين، وكذلك عن طريق القرصنة والسلب، أو انتماء فرد لقبيلة أو شعب معين، كما كان من فرعون مع بني إسرائيل في مصر. أما عن معاملة العبيد قبل الإسلام، فكتب التاريخ تروي لنا أبشع صور الإذلال والإساءة، ولم تكن كتب القوانين تعطيهم أي حق، أو تنص على طريقة لإنهاء الرق بشكل إنساني، أو فيه إنصاف للإنسان.
جاء الإسلام ووجد هذا الوضع، ويصعب إنهاؤه مرة واحدة، كشأن معظم التشريعات، كالخمر، والربا، وغيرهما، تدرج الإسلام في إنهائها، وكذلك كان مع الرق، فبدأ أولا بوضع تشريعات في التعامل مع العبيد، تبدأ من الإحسان إليهم، وكسوتهم، وإطعامهم مما يأكل الإنسان، ولذا كان رواة الأحاديث يرون أبا ذر الغفاري ومعه رقيقه، يلبس مثله، فلما سئل عن ذلك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم" وهذا في باب القوانين والتشريع سبق بعيد جدا في مجتمع لا يرى العبيد سوى أدوات لخدمتهم، وإفراغ شهواتهم فيهن، ولا قيمة لعبد ولا لجارية، فهو يباع ويشترى شأنه شأن أي سلعة في السوق. وأساس هذه المعاملة الإنسانية في الإسلام والتي أوجبها على أتباعه، أمور عدة، وهي:
– وحدة النسب، فكل البشرية تنتهي في النسب لآدم.
– وحدة المعدن، فكلنا خلقنا من تراب، وأبناء تسعة أشهر.
– وحدة الخالق، فكلنا خلقنا خالق واحد هو الله.
– وحدة التكريم، فقد قال تعالى: (ولقد كرمنا بني آدم)، فكل بني آدم مكرم.
– وحدة المصير، فكل بني آدم مصيره الموت، والقبر، والحساب، وكل ذلك أمام الله خالق الجميع سبحانه وتعالى.
الطرق الوقائية لمنع الرق في الإسلام:
وضع الإسلام طرقا وقائية تمنع الرق من الأساس حتى لا يقع، فأغلق منافذه وضيق عليها، فمن أبوابه: استرقاق الأسير في الحرب، وبيعه فيما بعد، فأغلق الإسلام هذا الباب، فلم يعد من حق المحارب أن يسترق أسيره، بل وضع له أمرين فقط، وذلك حسب قوله تعالى: (فإما منًّا بعد وإما فداء)، فهو مخير بين أن يدفع الأسير له فدية، ويفك أسره، وإما أن يعفو عنه بلا فدية، فلم يعد من حقه تحويله من حر إلى عبد.
كما حرم الإسلام القرصنة وسرقة الأحرار، وحكم على كل مال يأتي من بيع الحر بأنه مال حرام، وجرم يرتكبه من يفعله، وجعل ذلك من باب الحرابة التي قال فيها: (إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فسادا أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف أو ينفوا من الأرض).
ومنع تحويل الحر المدين إلى عبد رقيق بسبب دينه، بل أمر صاحب الدين أن يمهله حتى يتمكن من السداد، فقال تعالى: (وإن كان ذو عسرة فنظرة إلى ميسرة)، كما حرم على الإنسان أن يبيع نفسه، لعلة الفقر أو الدين، وحمل المجتمع إثم أن يكون فيهم من يبيت جائعا، فقال صلى الله عليه وسلم: "ليس منا من بات شبعان وجاره إلى جنبه جائع".
كما أغلق الإسلام أهم باب للرق، وهو باب التوالد، فكان من عرف الناس: أن الجارية مهما تلد فكل من تلده فهو عبد مثلها، فجاء الإسلام، ووضع تشريعا جديدا، وهو كل من تلده الجارية من سيدها، فهو حر، وأمه تعتبر (أم ولد)، وبذلك تحولت من جارية لأم ولد، أي أم حر، تنال حريتها بإعتاق سيدها لها، أو بوفاته، لكن وضعها التشريعي والقانوني تغير عن ذي قبل.
طرق إنهاء الرق في الإسلام:
تلك طرق علاجية، تعالج وضع الرق بدرجة ما، لكن الإسلام سبق سبقا كبيرا وهائلا في اتخاذه وسائل ناجعة لإنهاء الرق تماما، لو طبقها المسلمون، وهي: جعل مصرف مهم من مصار الزكاة لتحرير العبيد، (وفي الرقاب)، وحث المسلمين على إعتاقهم، وأن من أعتق عبدا أعتقه الله يوم القيامة، وجعل تحرير الرقيق كفارة في حالات متعددة كثيرة الحدوث في الحياة، وهي: كفارة القتل الخطأ، وكفارة الظهار، وكفارة اليمين، وكفارة من يجامع امرأته في نهار رمضان، وهي أمور تحدث في الحياة يوميا، ومعنى ذلك: أنه سيتحرر يوميا رقيق، وبذلك ينتهي من الحياة تماما.
ووضع الإسلام نظام المكاتبة، أي يتفق العبد مع سيده على سعره، ويسمح له بزمن يعمل فيه ليسدد قيمته، ويعتق بذلك، وإذا رفض السيد ذلك يلجأ العبد للقضاء ويجبر سيده عليه. وكذلك جعل الإسلام من باب الوصية، فللمسلم أن يوصي بعتق رقيقه من ثروته وماله، وأخيرا: جعل الإسلام إجراءا آخر مهما، وهو: إذا أساء السيد لرقيقه، ورفع أمره للقضاء، للقاضي أن يعاقب السيد بعتق العبد، وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم في حالة جارية أساء لها أسيادها.
مدى مسؤولية الحكام والمسلمين عن بقاء الرق:
إذا كانت هذه تعاليم الإسلام وتشريعاته، والتي تقضي بإنهاء الرق تماما، فلماذا سبق الغرب لإنهائه قبل المسلمين؟ تلك جريمة كبرى ارتكبها حكام المسلمين، وعوام المسلمين، وبعض الفقهاء الذين سكتوا عنه، بل برر بعضهم الاستمرار فيه، وهو ما ناقشه بتفصيل المؤلف في الفصل الخامس من الكتاب.
رحم الله الدكتور مصطفى الزلمي وجزاه خيرا، فقد حقق ما أراد من كتابه، بل من عنوانه كان موفقا: (مستنقع العبيد والجواري وتجفيفه في القرآن) فقد جعل الرق مستنقعا غير طاهر، يحتاج لتجفيف ثم تطهير، كما كان موفقا في تفنيد مزاعم أعداء الإسلام، بأن القرآن أقر مشروعية الرق، وهو زعم باطل، أثبت بطلانه في كتابه بكل دليل شرعي وعلمي وتاريخي، مع شجاعة في بيان على من يقع عاتق تعطيل أمر القرآن بتحرير الناس، والإحسان إليهم. وكم من قضايا وشبهٍ تثار حول الإسلام، والإسلام منها براء، ولو ناقشها العلماء والمختصون بروح علمية ومنهجية لمحيت تماما، وهي وظيفة ودور العلماء والدعاة في هذا الزمان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.