في مكان على الأرض التي نعيش بها، كان الصباح جريحاً وهو يتدلى على نافذتي ويرتعشُ قليلاً؛ ليزيح بعضاً من غبار القصف، وعلى أنقاض ذاكرة منتهكة من رائحة الموت والحرب، أفتحُ عيني كنافذة مطلة على الخراب وذكريات الأمس وصوت الطائرات وبقع البارود.
أحركُ برفق باقي الجسد كجملة منفية في وسط جملة نحوية استثنائية، كانت قهوة الصباح فاتحة للراحلين، وهم يتركون ندباً على جدار الكوب حينما تتلاشى صورهم ويخفت صوتهم الدنيوي، كآبة الصباح تطلُّ من بين الجدران، تختزل أمنيات كانت بأجنحة بيضاء حينما أنام، وتلتصقُ على الملابس التي تطورت من أغلفة الصحف اليومية وبعناوينها الجاثمة على الراحلين إلى البعيد، وتشابهُ سعال المذياع الذي أديره ببطء؛ كي لا يرحل هو الآخر، رائحة الحرب والموت تملأ المكان، وكمحاولة أخيرة لنفيها من زوايا الغرفة أركلُ جسدي خارجاً، تاركاً كآبة الصباح، وقهوة الراحلين، ورائحة الحرب، ومذياعاً مصاباً بالسل الرئوي، في عراك دائم.
فمنذ اليوم لن أتيح لهم التنفس عبر أوردتي، فربما أكون أنا الشهيد القادم، ربما هناك طائرة تحفظُ شكلي، والتقطت صوراً لي، وربما غارة ليست خاطئة تليقُ بي قد تصادفني بالطريق أو في عزاء، وربما ابتهاج صغير في أحد الشوارع، وقد تنتظرني عبوة ناسفة بالقرب من طريقي اليومي، وربما إرهابي يشد حزاماً ناسفاً حول خاصرته سيكون وجهي المرمي بكل أنواع الوجع آخرَ شيء يراه في حياته قبل ملاقاة الحور العين.
وربما رصاصة نقطة أمنية تغرمُ بي وتشتهي جسدي، وربما عدم تناولي الخبز لأسبوع يرسل لي غيبوبة طارئة نحو الموت، وربما أصاب بخطأ طبي لمعالجة نزلة البرد وتصعد بي نحو السماء، وربما لا أموت لكني الشهيد في مكانٍ ما في بقعةٍ أخرى من جسد اليمن.
ما زال صداع الطائرة ينقرُ في رأسي رغم عبورها بسلام فوق مخيلتي دون حدوث مجزرة جديدة، تحت عنوان غارة خاطئة.. أجتاز حالياً النقطة الأمنية بحذر، فربما فتشوا ذاكرتي، وأخلوا سبيل قصيدة ما كنتُ سأقدمها لامرأة جميلة ترتدي نظارة حمراء، وربما اشتموا رائحة الصراع الدائر في غرفتي، وقد يعتقلونني بتهمة حيازة الهواء أكثر من سعة الرئتين اللتين أحملهما، بسلام أعبرُ النقطة الأمنية مثلما تهمسُ شوارع المدينة التي تحملني لدرس اللغة عن السلام وهي تشيّعُ أطفالها الصغار، فأعيدُ ذكريات الأمس، وكأن لا شيء يتصلُ بالحياة، فغارة لم تخطئ هدفها تقتلُ حياً في الحديدة، ومبنى سكنياً في إب وتحدث مجزرة في عزاء صنعاء، وطفلة تُقتلُ برصاصة راجعة من عرس قريب، وأخرى تموت في تهامة برصاصة الجوع، وآخر يطلبُ ماء في زنزانة منفردة لا تبكي عليه بعد موته، فأساومُ الخوف وأتفقد أجزائي، فربما بُتر عضو في منامي من مخلفات صاروخ طائرة لم ينفجر، وربما استعار لغم أرضي شيئاً من جسدي يسد به رمق أمراء الحرب.
الوقت متاح لأنهزم رغم صمود شوارع المدينة وأناسها وأشجار الصنوبر التي تفرز السلام وهي تداوي جراحها، وتتسرب نحو ذاكرتي أنثى برائحة الحب والحرب، وبعطرها ذي الماركة الفرنسية الذي يزاحمُ بارود الصواريخ، وابتسامة تحملُ طفلاً وأمهُ تضعُ طعاماً في حقيبته المدرسية، وقُبلة بخديه قبل صعوده باص مدرسته.
وشاب لا يشبهني سوى بكتاب اللغة الذي أحمله لدرس اليوم، وهو يضعُ خبزاً وماء قرب مشرد اتخذ الرصيف وطناً، ومن بقايا العلب الفارغة نشيده الوطني، وطبيب يرتدي جلباباً أبيض يسرعُ نحو المستشفى القريب، فثمة رجل مُسنُّ تحتشدُ السوائل في جسده، وقد ينقلُ دماً لجريح غارة الأمس التي استهدفت حشداً شعبياً كبيراً في العزاء الأخير، وصبي لا يذهب للمدرسة ليبيع الصحف اليومية؛ ليعول أسرته ويشتري العلم الجمهوري، ويضعه بقربه يستنشق الوطن من خلاله، ويطلق أحلامه نحو السماء.
كنت أفكر كيف نُهزم وهؤلاء موجودون؟!
أصل إلى قاعة الدرس بذاكرتي المتعبة، وصديقي يتحدثُ عن حبيبته، كيف تقدمُ مصروفها اليومي لأسر نازحة، فيتسلل الأمل المنتشر في شوارع وأزقة المدينة إلى ذاكرتي، وهي تحاول محو سوداوية الموت الذي يسقط كالمطر في بلدي بعد أن توارى شهداء جدد نحو السماء، وكأنها تخبرني أن ثمة حياة لست أعرفها، حياة لا بد أن نتمسك بها دون أن نرتجف حينما يموت أحدهم بغارة أو رصاصة غير معنونة، فثمة نصر يلوح في الأفق، وثمة روح تخبرني أننا لن نهزم، وقبل أن توضح تلك الحياة أكثر تقاطعنا مُدرِّسة اللغة بصوتها الجريح من غارة الأمس، وبلغتها الإنكليزية وهي تقول لنا: صباحكم صمود، صباحكم سنعيش رغم الموت والحرب، صباحكم نصرٌ قريب.
* من الملحق الثقافي اليمن اليوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.