أصل العوق العاطفي في المجتمع العراقي

فوجود الحب وصحة التنشئة وأسس التربية السلمية أكبر عامل محدد للفرد وشخصيته وسلوكه ومستقبله بكل أشكاله وتفرعاته، فأي اختلال في الصغر يؤثر على الكبر، خصوصاً أن الصغر مليء بالمغالطات والأسس الخاطئة، أما آن لنا أن ندرك ذلك جيداً؟!

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/05 الساعة 05:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/05 الساعة 05:02 بتوقيت غرينتش

أحد أكثر الأسباب التي تجعلني أقبل الإيمان بنظرية التطور هو أن الأسرة العراقية في مشاعرها وسلوكياتها ما زالت تحت سلم التطور.

عجيبة غريبة حالة الأسرة فتشعر بغوغائية غير ممنهجة وسلوكياتها ومشاعرها ما زالت عالقة في سلم التطور، لم تكتسب الوعي الكافي أو تصل لمرحلة النضوج اللازمة.

نعم تناقضات وسلوكيات لا مبرر لها أو تفسير كونفوشي لها، إذ فسِّر لي ضرب الأم المبرح لابنها الضائع بعد البكاء والعويل عليه، وفسّر لي شجار الأخوين في الأسرة الواحدة، الذي لا تبلغ شراسته المصارعة الحرة في حين تعقبها ندامة أشرس، وجو الخشونة الذي يسيطر على الأسرة العراقية، وفسر لي ذلك العوق الذي يمنع الفرد العراقي من التعبير عن مشاعره لإخوانه وأخواته وعائلته، وإن عبر عنه يكون بشكل ساذج طفولي، أما في التعبير عن مشاعره في علاقاته الزوجية أو العاطفية، مفارقات أخرى يدركها كل عراقي.

فعلاً لماذا نجد صعوبة في التعبير عن المشاعر والخشونة في كلماتنا ومشاعرنا مع أفراد الأسرة أو خارجها، التي تتناقض ما بين القسوة والخشونة المفرطة واللين الناعم.

علمياً أملك السبب وسوف أعرض لكم ذلك، لكن هل سنتعاون لكي نرتقي بالأسرة العراقية عاطفياً في بلد أحوج ما يكون للحب والتعبير في ظل إمكانية خروج أحد أفراده من المنزل بلا عودة أكثر من إمكانية رجوعه سالماً؟ وهل سنعيد تصحيح تلك المفاهيم الموروثة؟ وهل سيرسل ابني رسالة "أحبك بابا" وأنا في العمل؟

أو هل سيخبر أخاه بأنه يحبه وهكذا؟ هل سيجيد التعامل مع إخوته بدلاً من التعبير عن مشاعره الأخوية باللكمات والشتم إلى عبارات تليق بتلك المشاعر.. إلخ؟

دعوني أتكلم بشكل منهجي، وإلا فإن الاستمرار في الاستعراض سوف يثير اضطراب البوح لدي كعراقي، فأنا أتصور نفسي أنني عاطفي، فذلك يخالف مبادئي، أو هو شيء من السذاجة، مع التأكيد على أنه جريمة في دولة الكبرياء لا تغتفر.

أصل العوق العاطفي

سمعت ذات مرة صديق والدي يقول: "كنا من شدة التبجيل لوالدي لا نجلس معه على طاولة الطعام، فهذا شيء محرم، ومجد لا يناله غالباً سوى الابن الصغير المدلل وقليلاً، أما أن نجلس معه ونتحاور ويشاركنا اهتماماتنا فهذا أمر يعتبر ضمن المحرمات في ذلك الوقت"، فالأب بالمفهوم التقليدي الحالي مقارنة بالماضي لديه اختلافات لا تتسع السطور لوصفها إلى الإيجابية طبعاً، وكذلك صورة الأم ودورها في الأسرة والمجتمع بالمقارنة بالماضي هناك اختلاف آخر لا يتسع المقام لذكره في هذه السطور وإلى الإيجابية كذلك، مع التأكيد على مرافقة السلبية للحالتين وتزايدها بالتأكيد.

الحقيقة أن السبب في العوق العاطفي، إن صح التعبير، أرجح القول فيه، هو نتيجة الرحم الذي وُلدنا منه وهو الريف، إذ كان سكان الريف والبدو 75 – 80%، سنة 1945، بحسب دراسة "القرية العراقية" لجعفر الخياط، على الرغم من وجود دراسة أخرى توضح أن نسبة الريف هي 66% في سنة 1945، لسنا بصدد هذا التباين بقدر استعراض حقيقة غالبية سكان العراق هم من الريف.

فسبب العوق العاطفي ليس نتيجة الأصول الريفية فقط، فالسبب الرئيسي الأصول البدوية، إذ تكون الريف العراقي من القبائل البدوية التي انتقلت من الترحال إلى السكن الثابت لتكون "القرية" العراقية.

وكما هو معلوم فإن المجتمع البدوي قائم ويقدر القسوة والخشونة، بل فيه تصبح القيم الحاكمة مقياساً، فكلما كان الرجل أكثر قسوة كان أكثر رجولة، وأكثر مثالية في المجتمع آنذاك؛ ليأتي الريف ليزيد ويعدل ويضيف اعتقادات وتقاليد كهذه مع تماسكه بغالبية تلك التقاليد والموروثات.

حيث أصبحت مشاعرنا مورثة من الريف التي ورثها من البدو بدوره، لنطبقها، سواء كسلوكيات أو اتخاذها قيماً عليا وأداة تحكيم للمشاعر في مجتمعاتنا التي تفصلها مئات العقود والآلاف من الانتقالات عن تلك المجتمعات، ولهذا لا عجب أن يأتي هذا التحكيم للمشاعر والتطبيق لهذه التقاليد والموروثات في حياة الفرد في المجتمع المدني، سواء على سيكولوجية الفرد أو على المجتمع، بكم هائل من المشكلات، ولا مبالغة أن تصل المشكلات إلى المشكلات السياسية والأمنية.

فهذه المورثات التي تحكم سلوكياتنا ومشاعرنا لا تمثل مشكلة إذا كانت ضمن تلك القبائل وضمن البيئة التي ولدت منها، سواء في القبائل الدائمة الترحال في عمق الصحراء أو في الأرياف النائية، إذ طبيعة خشونة القيم وقسوة الواقع وصعوبات الحياة تكون معززة لهذه القيم ومتآلفة معها، لكن أن نأتي ونقوم بتطبيقها في زمن مختلف وفي مجتمعات مختلفة نعيشها وعلى النقيض، فإننا نواجه -كما أسلفت- مشكلات لا حصر لها، سواء نفسية أو اجتماعية، بل تصل إلى حد السياسية.

ولعل أبرز هذه المشكلات العوق العاطفي وصعوبة التكيف الذاتي بين المشاعر والقيم الريفية، وبين الواقع المتحضر في المدينة، وما ينتج عن ذلك من مشكلات أخرى، سواء في المجتمع أو على الصعيد الفردي.

وتتعقد المشكلة أكثر مع الانتقالات من الريف إلى المدينة؛ ليظهر لدينا -إن صح التعبير- "ترييف المدينة"، فالعادة أن الفرد الريفي هو من يغلب عليه تأثير التحضر، لكن ما يبدو لدي أن الحاصل هو العكس، فالانتقالات الحاصلة من الريف إلى المدينة، وبشكل متسارع، كما اتضح سابقاً، نتيجة عوامل سياسية وأمنية واقتصادية، فالعدد الهائل الذي انتقل من القرى الريفية إلى المدينة ما زال بعقليته وتفكيره ومشاعره، وخصوصاً الانتقالات التي حصلت ما بعد عام 2003، نظراً لكثرة انتقالاتها وارتباطها بأسباب أمنية وسياسية واقتصادية، ولا عجب أن نرى، وخصوصاً بالعاصمة بغداد والمدن الجنوبية، الدور الذي تلعبه القبائل في الحياة الاجتماعية، ولا عجب كذلك أن نرى تزايداً في الفجوة بين الريف والمدينة، وبين المدينة ذاتها بين السكان الجدد والقدامى.

عموماً فالحديث عن أهمية المشاعر ودورها وتأثيرها في حياة الإنسان، سواء النفسية أو صحته الجسدية، أو على المجتمع، بديهة معلومة، ومن هذه البديهة لا مبالغة بالقول إن الاختلال في مشاعر العراقي، لا سيما في الأسرة، هو نتيجة تقاليده الريفية الموروثة، والأهم أن من البديهة ذاتها ومن التوضيح أعلاه، أن هذا التحكيم للمشاعر والقيم العليا والتنشئة هو سبب كبير في المشكلات النفسية والاضطرابات التي يعاني منها الفرد والمجتمع العراقي التي تنعكس عليه سلوكياته وتعامله.

فوجود الحب وصحة التنشئة وأسس التربية السلمية أكبر عامل محدد للفرد وشخصيته وسلوكه ومستقبله بكل أشكاله وتفرعاته، فأي اختلال في الصغر يؤثر على الكبر، خصوصاً أن الصغر مليء بالمغالطات والأسس الخاطئة، أما آن لنا أن ندرك ذلك جيداً؟!

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد