كنت عائداً من تلك المحطات اليومية، في وظيفتى المرهقة التي رغم شغفي بها، فإن تلك الظروف الاقتصادية التي نمر بها في بلدنا تجعلنى أهيم في الأرجاء كئيباً، بين الحين والآخر، شاغلاً قلبي وعقلي بالمستقبل الذي أراه سماء لا نجوم فيها.
حينها قابلت ذلك العجوز، النجم الذي أنار سمائي، يعمل حارس أمنٍ في أحد أبراج القاهرة التي يسكنها الأغنياء، طلب منى أن أسانده لبداية الطريق الذي لجميل قدري هو نفس طريقي، حتى أصطحبه أطول مسافة.
بدأ يحكي عن الأغنياء الذين يحرسهم وكيف هو حالهم، يرزقهم الله بالمال ولا يشعرون بعظيم قدرته فيرتعون في الأرض تيهاً.. يخبرني أي بني إنهم يأتون بزجاجات الخمر ويريدونني أن أحملها لهم! كيف أحملها وحاملها ملعون! أُخبرهم أني حارس أمنٍ وفقط، لذلك حاولت شركة الأمن نقلي؛ لأني غير مراعٍ لمشاعر المستأجرين، عجباً ولماذا هم لم يراعوا مشاعري؟..أتساءل يا بني هل أذنب بحراستهم وأكون راعياً رسمياً بالأجر على معاصيهم؟!
أدهشني هذا الرجل، يا له من عجوز كيف يرى الأمور وكأنه الغني وهم الفقراء! سألته ماذا أصابك؟! يداك في الجبيرة وقدماك وتلك العصا لا تقدر على حملك.. قال لي كسرت يا بني وكسر قلبي.
أخبرته بلهجة مصرية -أوقفته متأثراً- "بابا" ماذا حدث؟!
دمعت عيناه حين سمع كلمة "بابا"، وكأنه حرم منها دهراً.. ثم قال: شاب صدمني بسيارته وانطلق لسانه باللعان يسبني بأمي -الله يرحمها- ويظن أني قصدت ذلك؟.. كيف يقصد الإنسان الموت؟! وكيف أدفع الإيجار إذا أعجزني الكسر؟!
لكن يا بني كسر الجسد عليَّ هيِّن.. ما آلمني هو كسر قلبي حين سبَّ أمي، فخمسة وخمسون عاماً أعمل لم أسمح لأحد أن يسب أمي.. وانطلق هارباً، تمنيت لو لحقته فانتقمت لأمي منه.
انفطر قلبي عليه وقد كنت سنداً له حتى يصل، أفكر في حديثه وفي صحبته.
حاول الشيطان أن يقول لي: ربما هذة مسرحية هزلية مما يفتعلها الكثيرون -من هول ما نراه من الشحَّاذين في القاهرة- لكني صدّقته.. فصِدق قلبه أصاب قلبي حتى أصبحنا قلبين سائرين على الطريق.. متلاصقين كأبٍ وولده.. يلقي السلام عليَّ أصحاب المحال التجارية الذين يعرفونه مبتهجاً بي كسنده وعونه، أداعبه وأقول: أين مقر عملك فأنت سرقة سهلة اليوم بكسرك هذا؟!، أواه يا قلبي.. كيف يكون الإنسان قوياً هكذا وسط المطر!!
مرت الدقائق سريعة حتى أوصلته لمكان خدمته قائلاً له: "بابا"؛ لعلّي أستعطفه بها، هل أعطيك…؟ ولم أكمل حتى هالني فِعله، فهو يخرج من جيبه خمسة جنيهات قائلاً: والله لو لم تأخذها لتأتي لنفسك بشيء ما لدراستك لن أسامحك وسأحزن منك.
ربي.. ما هذا الرجل؟ شكرته بذوق وهربت منه بكوبٍ من الشاي لأرفع عنه الحرج، وودعني قائلاً: يا ليت اليوم لم ينتهِ..قلت له: يا ليت بابا.
صاحب العملة
واقفاً في أحد الباصات الشعبية، أكاد أكون خارجة من الزحام، لم يمنع ذلك السائق من طلب أجرته بصوته الجهور الذي أرعبني فأسقط مني عملة معدنية في وسط الشارع لمحها أحد المتلاحمين في تلك المحنة المواصلاتية اليومية، فنزل بجلبابه الرث وثوبه البسيط ليبحث عنها في الطريق.
أوقف سيارة مسرعة قليلاً مجبرها على انتظاره باحثاً عن عملتي أو لنقل عملته.. لا يأبه بالطريق ولا بمن يسبّه ويسب أمه هنا أو هناك، ولا ضجيج السيارات الذي يصم الآذان، لا يرى سوى العملة.
هذا ليس فليماً كارتونياً لجيرى الفأر يبحث عن جبنه وسط الزحام، إنه رجل في زمن أصبحت العملة فيه طوق نجاة لغريق تعلق في قشة معدنية.
لن تنجيك يا رجل.. إنها تندثر كل يوم، تمنيت لو أتيحت لي الفرصة لألحق به فأعطيه منها حفاظاً على ماء وجه أمه التي لا يأبه بسبابها أو حتى حياته التي ألقى بها وسط الطريق لأجل عملة رخيصة.. حياته التي ظللت طوال اليوم أفكر فيها وأتساءل: ماذا فعل صاحب العملة؟!
وتتكرر القصة
على سُلم القطار الكهربائي، تعلق ذلك الرجل بذراعي، ها هو المشهد يتكرر؟ أين أوصلك يا حاج؟ لا أعلم يا بني.
يضع يديه على عينيه محاولاً البكاء، من الوهلة الأولى علمت أنه يمثل لي مسرحية درامية واستأنف كلامه: "ذهبت لأخي ولم يفتح لي الباب…"، وأكمل باقي القصة، ينظر لي بين الكلمة والأخرى بطرف عينيه يحاول متابعة انطباعاتي إثر حديثه، تركته يسهب في قصته حتى أخرج روشتة بها أدوية لا يجدها، كُتب عليها اسم غير اسمه، وليس لجنسه أصلاً، فهو اسم امرأة لا يكون إلا لامرأة.
أخرجت يدي من بين كفيّه بهدوء معتذراً له، ليس عن شىء إلا أنه حاول أن يلوث فطرتي، فكلما رأيت رجلاً أرجع لي الثقة بالجبال وأوتادها المؤمنة المثبتة بآيات القرآن في قلب الحياة وجدت وسمعت من هنا وهناك، عن رجالٍ ليسوا بالرجال.
فالرجل يا سيدي، ليس هذا الذي يحمل شكل الرجل وصفاته الذكورية، الرجل يا سيدى، هو من قال للحياة تشكلي كيف تكونين فأنا بالله مؤمن وعليك صابراً، الرجل يا سيدي من ترجل عن معاصيه، واستوثق عند الناس عهوده ومآتيه، ورمى المشكلات بسهام الدعوة مع صيد الرجال، آخاذاً بأسباب العدة.
أنا رجلٌ؛ لأني لم أترك في الحياة قلباً منكسراً بسببي ولا امرأة تدعو عليَّ، ولم أخذل قلباً أذاق الأيام صبابتي!
لم تسحرني العملة المعدنية ولا سؤال أحد غير الله، ولم أكن لعباد الله مسهلاً لذنوبهم في حق الله.
أنا رجلٌ؛ لأني بين القلوب طائر صحو الرؤى والأفكار، متدثر بعباءة الخشية من الله.
يا بني.. كُن رجلاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.