سيزيف

نظن أن أسطورة "سيزيف" تلخيص لحجم الصراع بالمجتمعات العربية الآن، وبمصر بشكل خاص، بين أجيال راغبة في التطور وتسعى للتغيير، وبين مجتمع جامد يكره التغيير ويمجّد الأموات، كانت خطيئة "سيزيف" المعرفة كبداية لإحداث حراك إنساني كبير.

عربي بوست
تم النشر: 2016/11/04 الساعة 17:59 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/11/04 الساعة 17:59 بتوقيت غرينتش

دائماً الأسطورة لها أصل من الواقع، أو هي تحريف له بصورة أو بأخرى؛ لذا كانت -وستظل- الأساطير الإغريقية مصدر إلهام، وقبل هذا تظل إسقاطاً لكثير من المشكلات التي تقابل البشر.

وستظل أيضاً أسطورة "سيزيف" الأكثر أهمية في تفسير شقاء الفرد ومعاناته مع نفسه أو عقله، ومفهوم الحتمية والجبر.

تقول الأسطورة إن الآلهة قد غضبت على "سيزيف" عندما سعى لسرقة الحكمة والمعرفة ومنحها للبشر، حكمت عليه بأن يظل أبد الدهر يحمل صخرة على كتفيه؛ ليضعها على قمة جبل "الأوليمب"، تنتهي العقوبة بوضع الصخرة.

لكنه وكلما اقترب من قمة الجبل، اهتزت الأرض تحت قدميه؛ لتتدحرج الصخرة وتهوي إلى سفح الجبل؛ ليعود لحملها مرغماً من جديد، على أمل الوصول بها للقمة؛ للتخلص من تلك اللعنة الأبدية.

قصة "سيزيف" كان لها وقع أشد في نفسي، تحيّرت حيالها كثيراً، غضبت كثيراً من سلبية هذا الشخص؛ إذ كيف يرضى لنفسه هواناً مستمراً أبد الدهر؟! وكيف يتحمل عذاباً مقيماً وهو يقدر على أن يتوقف فجأة ليلقي بالحجر من على كتفيه ويهبط لأسفل الجبل؟! ثم ماذا لو توقف وسأل نفسه: لماذا يفعل ما يفعل؟ ولماذا لا يتوقف أو يقرر أن يكتفي بمحاولاته اليائسة السقيمة؟!

لعل إعادة قراءة الأسطورة توضح أن من صاغها أو ألّفها كان يعي ما يريد، وكان يرغب في توصيل رسالة ما، لا ندركها من الوهلة الأولى، فقد تبيّن أن "سيزيف" هو تلخيص رمزي لمأساة يعيشها كثير من البشر، ممن يتجاوز تفكيرهم حدود عجزهم الجسدي أو المجتمعي المحيط بهم، لكنهم في ذات الوقت يقعون أسرى وَهْم قدرتهم على التغيير أو التأثير، أو يصبحون مرضى الوهم، ومُجبرين على السير في ذات الطريق، مع علمهم ووعيهم بالنتيجة مسبقاً.

"سيزيف" هو كل حالم راغب في التغيير والتطوير، يشقى بعقله وطموحاته، وسط عالم مغرق في التقاليد والجمود.

الصخرة التي يحملها "سيزيف" هي تلك القيود المادية والمعنوية التي يفرضها المرء على نفسه، طوعاً أو كرهاً، أو يفرضها المجتمع بازدواجية معاييره، فتصبح أثقالاً تحدّ من حركته وتُمنعه.

نظن أن أسطورة "سيزيف" تلخيص لحجم الصراع بالمجتمعات العربية الآن، وبمصر بشكل خاص، بين أجيال راغبة في التطور وتسعى للتغيير، وبين مجتمع جامد يكره التغيير ويمجّد الأموات، كانت خطيئة "سيزيف" المعرفة كبداية لإحداث حراك إنساني كبير.

وهنا نجد أن فورة الشباب تنعكس بقوة في الأفكار والأحلام والخيالات الجديدة، وتتجلى أكثر في إيمان الفرد بما يقول، ولعل مقولة: "ليت الشباب يعود يوماً" قُصد بها القدرة على طرح الأفكار والإتيان بالجديد، بينما التقدم بالعمر يعني الثبات والاستقرار على الموجود وتأكيداً له.

لم تقُم ثورة أبداً على أيدي كبار سن أو شيوخ، ولم يناصر أو يدعم أي رسالة سماوية سوى الشباب.

ما الشباب إلا مرحلة عقلية وقدرة على التفكير، ولا علاقة لها بمرحلة عمرية أو جسدية، فقد تجد حدثاً صغيرَ السن وهو لا يختلف في تفكيره كثيراً عن الموجود.

نكره التفكير، ونؤمن بفقه "العنعنة"، أي ترديد مقولات الغير، والإيمان بها، والدفاع عنها، وكأنها من أركان العقيدة.

في بلدنا يحكم الشيوخ والعجائز، ويتمسكون بكراسيهم ومناصبهم أبد الدهر، وفي سعيهم للبقاء والخلود صنعوا التوريث، وعبدوه كأصنام الجاهلية، حتى أصبح واقعاً وعبئاً على الدولة، وحائلاً بينها وبين التقدم.

في بلدنا يحكم الشيوخ بأفكارهم ومعتقداتهم، ويتحكم الموتى من قبورهم في الأحياء، ونحن بداخلنا كراهية تقترب من كراهية التحريم من أي فكرة جديدة، ولو فيها صالح المجموع، ونمقُت من يروّج للتغيير، ونُقاتل بشراسة وبِخسّة مَن يصرّ على الجديد، المؤسف أننا نحتفي بالموت والموتى وآرائهم ونمجّدها أكثر من احتفائنا بالحياة كهِبة لا تتكرر.

شقيٌّ مَن تجاوز تفكيره مَن حوله.. يظل حمل الصخرة على كتفَيه، ساخراً منه الجميع.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد