من حين لآخر تنفجر ينابيع المفهومية والفلسفة والحكمة من فم السيسي، وتنفجر معه ينابيع السخرية المرة، والكوميديا العبثية من الشباب.
بعد الضحك والسخرية الموجعة تظل الروح نهمة للمعرفة والتحليل، لماذا يقدم هذا الشخص على كل هذه الكلمات المبعثرة والحكاوي الملتوتة، والجمل التافهة، مع كثير من اليقين أنه يعطي للناس خلاصة تجربته وعصارة حكمته.
سأحاول ذلك رغم صعوبته، ومع اعترافي أنني لست مطلعا على علوم النفس أو تحليل الشخصيات، لكنني سأستند إلى خبرتي الشخصية -المشتركة مع كثيرين- في التعامل مع هذا النمط المتكرر من البشر خلال العمل أو الجيرة أو العلاقات العائلية.
1
بقليل من التأمل نجد أن هذا نمط بشري شائع فيما حولنا، وأن كل إنسان منا له نصيب من هذا الأداء في بعض لحظات الضعف واهتزاز الثقة في الذات.
سمعنا كثيرا أحاديث من أشخاص محدودي الكفاءة، وسطحيي المعرفة، ومنعدمي المواهب، يتحدثون بفخر عن انجازاتهم، وخبرتهم التي مكنتهم من اجتياز الصعاب، وتحدي الأهوال، وتحقيق ما هم فيه من النجاح الباهر.
راجع نفسك.. كم مرة جلس أحد مدرائك يحدثك وزملاءك في العمل عن الصعاب التي واجهته، والميكروباص الذي اعتاد ركوبه، إلى أن تحقق فضل الله عليه بأن امتلك السيارة النوبيرا "مفيمة" الزجاج؟
تذكر هذه اللحظات، وتذكر الرسائل التي تبادلتها مع زملائك أثناء الاجتماع للسخرية من هذا المدير، والاستهزاء بتفاهة أحلامه، وما يراه انجازات… تذكر نوبة الغضب التي انتابتك من هذا التافه، ثم نوبة الرثاء الكامل لهذا الشخص الذي لم يحقق شيئا في الواقع إلا أن احتفظ بكرسيه، في شركة لم تخترع شيئا ولا تربح شيئا وبالكاد يوفر ملاكها رواتبكم وايجارات مكتبكم المتواضع، وأن هؤلاء الملاك لم يجدوا من هو أقل في أحلامه من هذا المدير المتشبث بالوظيفة، والذي يعتقد أن منصبه الإداري هو النعمة الكبرى التي عليه صيانتها مدى الحياة، حيث يرى تعيينه في هذا المنصب تتويجا لحياته الحافلة.
كم من الآباء في بلادنا تنتابهم حالات التنظير على اولادهم، يحكون عن كفاحهم المضني والتوفيق الإلهي لهم، حين تمكن هذا الأب من الحصول على عمل خارج البلاد، في وظيفة تافهة، وكيف ناضل بشرف، ليغيروا سيراميك الحمام أو يدفعوا أقساط شقة عزبة النخل…
يقول الأب ذلك وهو يجلس بفانلته الداخلية المثقوبة في أكثر من مكان، وسرواله الداخلي الذي يكشف عن سيقان ابيض شعرها المتبقي من زمن الفتوة، تذكر شعورك أنت وإخوتك ومغالبتكم الضحكات على هذا الكلام الذي تكرر على أسماعكم طويلا.
وعن الشقة التي يرفض أحدكم أن يتزوج بها لانها في مكان عشوائي، بينما يراها أبوكم أفضل مكان لزواج أحدكم لقربها من محطة المترو والطريق الدائري في آن واحد.
2
ستلحظ هذا النمط الشائع والمنتشر من البشر على المقاهي… في المساجد في غير أوقات الصلاة… في قطارات الوجه البحري، بين سائقي التاكسي، ورؤساء الأقسام في الوزارات، ومديري الإدارات في شركات القطاع العام، وموجهي التربية والتعليم، وغيرهم.
لماذا يتحدث هؤلاء بهذه الطريقة التافهة المثيرة للشفقة؟ ولماذا لا يلاحظون عدم اهتمامنا بما يقولون، وعدم رغبتنا في السماع عن أحلامهم وطموحاتهم؟
لماذا لا يكتشفون أننا ضجرنا من كل هذا، وأن حكاياتهم الشخصية لا تعنينا في شيء، وأن ما يرونه منجزات لا ندونها نحن إلا في قائمة خيبات الأمل وضلال السعي، وحكاية رجال متوسطين انتهت أعمارهم إلا اللا شيء.
في المقابل يدهشك أنك حين تستمع إلى الناجحين المنجزين، تجد بينهم شيئا مشتركا في الغالب:حين يجبرهم الناس للحديث عن تجربتهم وعن منجزاتهم، ستجد إجابات مطردة ومتكررة من قبيل: "كنت محظوظًا" ، "حظيت بفريق رائع ساعدني" ، "التجربة والفشل ساعداني نحو مزيد من المحاولات"، "أعتقد أنه التوفيق والرزق" ، "لم أكن أكثر دفعتي ذكاء أو سعيا لكن هذا ما انتهت الامور إليه" .. ومثل هذه الإجابات المتطامنة.
فريق الناجحين المنجزين فعلا لا يكونون في حاجة لإثبات أنفسهم، أو مزيد من التعزيز لثقتهم أو التأكيد على قدراتهم الخاصة، إنهم ناجحون بالفعل والجميع يعلم أنهم ناجحون وهم أول العارفين بقدراتهم، وبالتالي يفكرون في بقية العوامل التي أدت لنجاحهم.
هم كذلك فرحون مسرورون بنجاحهم الحقيقي وبالتالي لا يكثرون من الحديث عن الصعوبات والتحديات والكفاح بطريقة درامية، إنهم في وقت الفرح الآن.
3
في ضفة أخرى… كثير من المشتركات تجمع فريق المتباهين بإنجازاتهم التافهة : الإحساس بالضآلة، ضيق الأفق، ضحالة التجربة، اهتزاز الثقة بالنفس… مما يجعلهم أقرب إلى محاولة بث الاطمئنان في أنفسهم بالتأكيد على عظم المشوار وعلى الكفاح المضني وغير ذلك من ترهات يشترك فيها مليارات البشر
إن تعرض هذا الفريق للانسحاق الإنساني، والذوبان في دولاب العمل البيروقراطي التافه، ومشاعر التضاؤل أمام الناجحين الحقيقيين، والتعود على تزلف المديرين، كل هذه المشاعر تقود إلى محاولة الفرح بأي نجاح، وتأكيد أن هذا النجاح تحقق فقط لأنهم مناضلون مضحون، يزيد من هذه المشاعر تحقيق نجاح مصادف، مبهر واستثنائي بالنسبة لهم.
في هذه الحالة تتوحش دوافعهم لإثبات جدارتهم بما تحقق، لكن المشكلة الأساسية تكمن في أن المعين الذي يغترفون منه ضحل، ولذا لا يجدون حديثا يوحي بكفاحهم إلا عينات من "حكاية الأستيكة والقائد الذي قال له إنه "نتن" وصبر البطل الأسطوري على ذلك.
أو حدوتة أمه التي قالت له وعادت، أو الصغار الذين كانوا يضربونه وتوعدهم له بالضرب حين يكبر، أو حكاية الثلاجة التي ظلت عشر سنوات فارغة …
وهذه حكايات مر بها كل البشر، لا فيها جديد ولا استثنائي ولا مبهر، نصائح الام، المدير سليط اللسان، الثلاجة الفارغة.. لن تجد رجل أعمال ناجح، أو عالم متحقق، أو كاتب موهوب يختار أن يقص على أي أحد كان مثل هذا الحكايات.. الناجحون حين يحكون عن تحديات وذكريات البدايات لديهم ما يقصونه فعلا.
4
السيسي نموذج للصنف محدود القدرات الذي تحقق لهم صعود استثنائي عارض، وبالتالي يظل يبحث عن تأكيد لجدارته بما حدث، فيغترف من حياته المحدودة فلا يجد إلا حكايات لا يهتم لها أحد، وتصيب الآخرين بالضجر.. فماذا يفعل؟
يضفي عليها أمور ثلاث غالبة في خطابه:
– المبالغة والكذب كحديث الثلاجة التي لم تحو إلا الماء طيلة عشر سنوات، وهو يظن بعقله المحدود ان كذباته ستثير الدهشة وستجلب التصديق.
– الطريقة الخطابية العاطفية في الإلقاء، كسرة العين، والنظر بعمق إلى الأرض، الابتسامة الهادئة، النظرة الناعمة المتأملة الملمة بحكمة الماضي، وخبايا المستقبل، وهي طريقة شعبية مصرية ستلحظها بوضوح في الوعاظ الشعبيين، وفي أحاديث الرجال على المقاهي، والنسوة في جلسات النميمة
المرأة التي تحكي بمبالغات شديدة عن كيفية تدبيرها طقم حلل ألمونيوم لابنتها، أو حنكتها في الفصال مع الدلالات، أو خبرتها العميقة في التدبير المنزلي…
– الادعاء الفاجر… "أنا طبيب الفلاسفة"، "أصبح العالم وأجهزة المخابرات تنتظر رؤاي وأفكاري"، "لي مع الله حال وهو توعد لي بكذا وكذا"
وأنا حين أصف الادعاء بالفجر أعني ذلك، لأنه ثمة ادعاءات يمكن أن تمر على السامعين، لكن ادعاء أن العالم ينتظر خبراته ويستفيد من رؤاه، ادعاء مفضوح الكذب، بين الفجر.
خاتمة
هذه الحكايات الممجوجة جديرة بمشوار السيسي نحو ما يراه مجدا تحقق له، تعليم محدود، التحاق بكلية عسكرية، اقتراب من الرؤساء، مدير مكتب وزير الدفاع، وظيفة غير قتالية في الجيش تعتمد على جمع المعلومات وأعمال المخبرين والبصاصين، ثم فجاة صار وزيرا للدفاع ثم فريقا فمشيرا، فرئيسا للجمهورية…
هذا الشخص يسعى بكل جهده لإثبات جدارته، وهذه الحكايات والمواقف هي ما تفتق عنه ذهنه المحدود، وكان الله في عوننا.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.