قبل أن تشتد حدة الحروب في موطنه سوريا، كان ماريا ماريا يستمتع بحياة الانعزال. فقد كان يقضي وقت فراغه صباحاً في السير ويلعب مع أحفاده وينام لبعض الوقت بعد الظهيرة.
ثم بدأ القتال في شرقي حلب الخاضعة لسيطرة قوات المعارضة. ودمرت الضربات الجوية المنطقة السكنية التي يعيش بها وأجبره الحصار الوحشي على ادخار الطعام حتى يجد أفراد أسرته الآخرين ما يكفيهم.
ويشعر العجوز البالغ من العمر 70 عاماً الآن بالضعف والخوف والعجز.
تقرير نشرته صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، الثلاثاء 1 نوفمبر/تشرين الثاني 2016، نقل عن ماريا، متحدثاً من منزله بالمدينة المحاصرة عبر "سكايب"، قوله: "قضيت كل حياتي أحاول بناء شيء ما لعائلتي، بنيت هذا المنزل، وجسدي يؤلمني جراء العمل الشاق على مدار سنوات كي أوفر لهم حياة أفضل. والآن لا يكاد يوجد لنا كرامة في هذا النمط من الحياة".
حياة صعبة
فقد أثرت الحرب تأثيرا كبيراً على أكثر من مائتي ألف مواطن لا يزالون يعيشون في حلب. ويواجه ماريا وغيره من المسنين من أهالي حلب ظروفاً صعبة للغاية، بحسب ما ذكره عمال المساعدات والأطباء هناك. ويختار البعض تقديم بعض التضحيات من أجل أفراد الأسرة من الشباب، أو يتم تركهم للعيش بمفردهم بعد أن يفر أبناؤهم وأحفادهم إلى بلدان أخرى سعياً وراء الأمان.
وذكر بكري العبيد، الذي يوزع الطعام على الأهالي في مناطق حلب الخاضعة لسيطرة المعارضة لصالح مؤسسة Mercy-USA الخيرية ومقرها ميتشغان: "يضطر الناس إلى التضحية وغالباً ما يتضمن ذلك هجر المسنين وإهمالهم".
أصبحت حلب، أكبر المدن السورية قبل نشوب الحرب، أهم ميادين القتال خلال النزاع الذي بدأ عام 2011 وأودى بحياة أكثر من 400 ألف مواطن وأدى إلى فرار ملايين السوريين من البلاد.
وسيطرت المعارضة على الضواحي الشرقية للمدينة عام 2012، وكثفت القوات الموالية للرئيس السوري بشار الأسد من جهودها لاستعادة تلك المناطق. وإذا ما تحقق ذلك، سيكون بمثابة انتصار هائل لقوات الأسد.
وفي الشهور الأخيرة، قصفت الطائرات الحربية التابعة لحكومة الأسد وحليفته روسيا المستشفيات والمنازل بالمناطق الخاضعة لسيطرة المعارضة بالمدينة. وحدث نقص كبير في الطعام والوقود جراء الحصار الذي تفرضه القوات الموالية للحكومة التي تسيطر على الطرف الغربي للمدينة.
فقدان العلاج
ونتيجة لذلك، يذكر الأهالي وعمال الإغاثة شرقي المدينة أنه أصبح من المستحيل العثور على الدواء لعلاج مرضى القلب وداء السكري والروماتيزم والحالات المرضية الأخرى التي يعاني منها المسنون. وتضطر المراكز الطبية إلى رفض استقبال الأشخاص الذين يعانون من مثل تلك الأمراض، بسبب الأعداد المتزايدة من الحالات الأكثر إلحاحاً، كهؤلاء المصابين بالشظايا والجروح الأخرى الناجمة عن الحرب.
وذكر بابلو ماركو، مدير عمليات منظمة أطباء بلا حدود الخيرية في الشرق الأوسط، أن الوضع سيئ للغاية، حيث لا يوجد أكثر من ثلاثين طبيباً لا يزالون يعملون في مستشفيات شرقي حلب. ولا يتبقى بالمنطقة كلها سوى وحدة غسيل كلوي واحدة.
وأضاف: "إذا توقفت تلك الوحدة عن العمل، سيؤدي ذلك إلى المزيد من حالات الوفيات. فالأطباء ليس لديهم الوقت والمستلزمات لرعاية الأمراض المزمنة، التي لو لم يتم علاجها سوف تؤدي إلى الوفاة في غضون أسابيع أو شهور".
يرفضون المغادرة
وذكر عبيد أنه مع الضعف الذي يصاب به البعض، قد يرون أنهم أصبحوا عبئاً على ذويهم، بما يمكن أن يثير المخاوف والقلق.
وأضاف أنه في بعض الحالات يتعين على الأسر أن تتخذ تدابير متشددة وتترك ذويها من المسنين بالمدينة. ففي المجتمعات العربية، يعيش كبار السن بصفة عامة مع أبنائهم حتى الوفاة.
ولا يوجد تقسيم موثوق للفئات العمرية لمن يعيشون بالمناطق الشرقية المحاصرة من المدينة. ومع ذلك وصل تعداد سكان المدينة قبل اندلاع الحرب إلى ثلاثة ملايين نسمة. وفرّ منها منذ اندلاع النزاع مئات الآلاف من السكان.
وذكر عبيد: "في الكثير من الحالات، نرى مسنين يرفضون ترك منازلهم. ويعني ذلك أن أسرهم كانت تضطر إلى تركهم عند الفرار إلى البلدان الأخرى".
وفي أحد الأحياء الأخرى شرقي حلب، تعيش ريما سلامة البالغة من العمر 83 عاماً بمفردها بالمنزل، حيث كانت تربي أبناءها. وقد فر معظم أفراد أسرتها إلى تركيا في العام الماضي، ولكن سلامة آثرت البقاء، وفقا لما ذكرته خلال لقاء حديث عبر سكايب.
ولم تستطع الرحيل بسبب الحصار، كما لم تستطع أسرتها زيارتها أيضا.
"سأموت بمفردي"
وتتلقى ريما الطعام من المنظمة التي يعمل بها عبيد، ولكنها تجاهد من أجل طهيه وتعتمد على مساعدات الجيران.
وذكرت ريما قبل إنهاء المكالمة فجأة "إنني أعيش بمفردي تماماً! وسوف أموت بمفردي هنا!".
وذكر ماريا أنه لن يغادر منزله مطلقا. وقال إنه عمل لسنوات في إحدى المزارع كي يستطيع سداد ثمن المنزل.
وحتى لو أنه حاول الرحيل، ستمنعه القوات الحكومية التي تحاصر المدينة. ولذا يقضي معظم وقته بالمنزل ويشعر بالوحدة ويأمل ألا تقضي الغارات الجوية عليه وعلى أسرته.
وذكر واصفاً مصير الكثيرين في الضاحية التي يعيش بها "أخشى أن يتم قصف منزلنا، وأن نلقى حتفنا خلال الاعتداء. سوف نضطر حينها إلى البقاء وسط الأطلال لأيام في انتظار الموت البطيء".
ويفكر دائماً في محاولة تحقيق التوازن بين ما يحتاجه هو وزوجته آجون البالغة من العمر 70 عاماً، من أجل البقاء على قيد الحياة ومطالب الأبناء العشرة والأحفاد الذين يعيشون معهم.
الأولوية للأطفال
وتسعى الأسرة بالكامل وراء رعاية أحد الأبناء، وهو أحمد البالغ من العمر 45 عاماً، الذي تم بتر ساقه في العام الماضي جراء الإصابة بشظية خلال أحد الاعتداءات.
وذكر: "نتناول وجبتين، إحداهما في الصباح والأخرى في المساء، لأننا نحاول الحد من كميات الطعام التي نتناولها حتى يتوفر المزيد للأطفال"، مضيفاً أنه يخشى من تأثير ذلك على زوجته، التي تعاني من ارتفاع ضغط الدم والروماتيزم.
تلقى ماريا مساعدة غير متوقعة من ابنه الآخر حميد، الذي قام بزيارته من تركيا وأصبح محتجزاً بالمدينة حينما فرضت الحكومة الحصار عليها منذ أسابيع.
وفي سؤال حول ما إذا كان حميد يعتزم العودة إلى تركيا، شعر ماريا بالاختناق.
وقال: "كلا، لا يمكنه العودة. هناك حصار. لا يمكنه تركنا هنا".
ثم قال: "أنا رجل عجوز. ينبغي ألا أفكر في مثل تلك الأمور".
هذا الموضوع مترجم بتصرف عن صحيفة The Washington Post الأميركية. للاطلاع على المادة الأصلية، اضغط هنا.