أدرك جيداً ما معنى أن تكون فقيراً، أفهم ما يتكبده الإنسان المغلوب على أمره، إنسان همه الوحيد قوت يومه، نأى بنفسه عن عالمهم المتعفن، هدفه الوحيد "طرف الخبز" ورغم رضوخه واستسلامه وتقبله للواقع تستعمل فيه العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص كمساحيق لتجميل لم يسلم "المسكين" من سوط الجلاد.
هي حكاية موسمية بطلها في هذا الموسم محسن فكري، تاجر سمك لقي حتفه في شاحنة للنفايات بعد أن دخل إليها مساء الجمعة لأجل استرداد بضاعته المحجوز عليها، بيد أن آلة شفط الأزبال جرى تحريكها، ممّا أدى إلى الإجهاز على الشاب ومصرعه في الحال.
إن محسن فكري ليس ثورياً ولا يسارياً ولا سلفياً ولا جهادياً لا ينتمي إلى حزب معين، إنه مواطن مغربي ينتمي إلى حزب "الخبز"، الحزب الذي يشكل شريحة مهمة من المغاربة، شريحة لا تكترث للأيديولوجيا، لا تغريها السياسة ولا تتابع الأخبار، وتقتصر علاقتهم بالإعلام على المسلسلات وحالة الطقس لمعرفة طبيعة الجو.
هم مواطنون لا يسألون ولا يطالبون بحقوقهم، حتى وإن انتهكت يرفعون أيديهم في الصلاة تاركين أمرهم لله -عز وجل- قانعين وحامدين، ينتظرون لقاء الخالق في الآخرة لتعويضهم عن الظلم الذي عانوه في الدنيا.
ومحسن يمثل هذه الفئة التي تبحث عن لقمة العيش. فبعد أن حجزت السلطات سلعته قفز إلى داخل الشاحنة لمحاولة جمع السمك المصادر، غير أن أحدهم قام بتشغيل محرك الشاحنة، فاشتغلت آلة الشفط التي ابتلعته وسحقت عظامه حتى الموت؛ لتعيدنا قضيته إلى "مي فتيحة مولات البغرير" التي صبت على نفسها البنزين، وأشعلت النيران، منهية بذلك رحلة معاناة تعيشها كل الأرامل في المغرب.
مي فتيحة كلّت عزيمتها عن مواصلة مسلسل اختار القدر أن تلعب فيه دور المستضعفة لا سيما بعدما حجزت عناصر القوات المساعدة سلعتها، ووجهوا إليها إهانات، لم تتحملها، طرقت باب القائد، عسى أن ينصفها ويعيد إليها المحجوزات، إلا أنها وجدت أمامها رجالاً يتلذذون بتعنيفها رمزياً ومادياً.
فمي فتيحة ومحسن فكري وغيرهما من الدراويش يشكلون فرصة لتفريغ مكبوتات البعض السلطوية وإطفاء نيران الشوق إلى زمن الاستبداد وإهانة الضعفاء وتجريدهم من أبسط حقوقهم.
#كلنا_محسن_فكري
#إالى_متى_طحن_شعب
هاشتاغ يلهب مواقع التواصل الاجتماعي، نشطاء أعربوا عن تضامنهم مع بائع السمك، ولكن هل يكفي التضامن في العالم الأزرق خلال كل حدث يهزنا من الداخل ويذكرنا بواقع تناسيناه، هل يكفي هاشتاغ ليطفئ نيران الإحساس بالظلم و"الحكرة" المشتعلة في قلوب عائلته ومعارفه؟ هل سننتظر محسن فكري آخر ومي فتيحة أخرى لنظهر إنسانيتنا لأيام قليلة وبعدها نعود إلى حياتنا؟
هكذا بات العالم الافتراضي وسيلتنا الوحيدة لتحقيق "الكوجيطو" الإنساني أنا متضامن على صفحتي إذن أنا إنسان.
الإنسانية هي دعمك لمحسن الذي تقابله يومياً وأنت في طريقك نحو عملك، الإنسانية تكمن في وقوفك إلى جانب مي فتيحة التي تبيع في شارع وقد تقابلها تعاني من الظلم ولا تتحرك مشاعرك الفيسبوكية، ولا يهمك كيف ستعول أسرتها؛ لأنك تعتبر نفسك قد تصدقت عليها في صفحتك وكتبت "هاشتاغ" لقي إعجاباً كبيراً من لدن أصدقائك، هنيئاً لك أنت الآن أصبحت إنساناً افتراضياً.
وهنا أستحضر مقولة الباحث الاجتماعي عبد الرحيم العطري: "هل الجحود صناعة مغربية؟"؛ لأننا انتقلنا إلى زمن الكل يفكر في ذاته ومصالحه الخاصة، ولكن هذا لا يمنعه من اتباع الموضة الفيسبوكية وكتابة "كلنا محسن فكري".
سأختم القول بأن الإنسانية ليست موضة، الإنسانية إحساس بالآخر الذي ربما قد تقتسم معه نفس البيت ونفس الحي؛ لنبحث عن محسن ومي فتيحة اللذين يوجدان في حيّنا ونساندهما ضد الظلم، خاصة ونحن ندرك أن "حزب الخبز" يتكبد المعاناة في صمت.
لقد حان الوقت لاحترام الإنسان، وطيّ صفحة العقلية المخزنية السلطوية، ومحاسبة المتواطئين في تجريد الإنسان من كرامته.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.