في إحدى محاضرات مادة "الدراما والمسرح في التعليم"، طلبت الدكتورة أن نتناقش كمجموعات مقسمة في قضايا مهمة قد تتجسد عبر الدراما، في هذه القاعة ما يقارب الـ٥٠ فتاة مقابل شاب واحد!
بعد انتهائنا من النقاش بدأت الدكتورة بسماع آرائنا، إلى أن سألت الشاب عن إحدى هذه القضايا، فأجابها: سأتحدث عن ظُلم الأنثى، فبُهرت الفتيات وبدأنَ بالتحدث بينهن، تعجبت الدكتورة مما ذكر، فسألته: وماذا أيضاً؟ قال: سأتحدث عن الظلم الذي تواجهه بعض الفتيات على نطاق العائلة بسبب أنها أنثى فقط، زاد حماس الفتيات بالقاعة، وبدأت أسمع كلمات مثل: "الله، يا عيني"، استرسلت الدكتورة بالحديث وطلبت منه أن يشرح ما يقصده بذلك، فقال إنه يرى أن منع الأنثى من الخروج من المنزل لمجرد أنها أنثى والسماح للذكور بالخروج متى شاءوا أمرٌ غير عادل، فالفتاة لها شخصيتها الخاصة كما الرجل، ولها حقها في أن تمارس دورها في المجتمع، كما يحق للرجل.
تعالت الضحكات في القاعة، وشعرت الفتيات بأن شيئاً ما خطأ يحدث هنا، لكنه مبهر بذات اللحظة، جلست إحدى الفتيات أعلى الدرج؛ لكي تسمع وترى النقاش من شدة الانبهار والتركيز، فسألته الدكتورة: وما الذي ستفعله إذا رأيتَ أختكَ تقف مع شاب في الجامعة؟ ركَّزتْ جميع الفتيات وهنّ ينتظرن الجواب، صرخت فتاة من الجهة المقابلة: أخوي لو شافني بيقتلني، فأجابها بأنه سينتظرها حتى تأتي للمنزل ويتحاور معها؛ إذ إنه يعرف كيف يفكر الشباب، ولهذا فهو يخاف عليها، سيحذرها وينصحها ويفهم الموقف بالكامل، زاد الصوت في القاعة، الفتيات في صدمة قوية من وجود عملة نادرة فيما بينهنّ، ببساطة، كائن آدمي نادر!
أذكر أيضاً حين تواصلت مع إحدى صديقاتي فقالت لي ضمن الحديث: أنا لن أخطب الآن، رغم أن الخاطبين يتقدمون لي، لكني لا أريد أن أرتبط بشاب يظنّ أني خُلقت للتنظيف والجلوس في المنزل، لا أريد أن أكون آلة يتحكم بها، وأن أتوقف عن العمل بسبب أني صِرت زوجته، أخبرتها أن أحداً من الذين حولي ليس كذلك، فهو ينظف ويغسل ويطبخ ويساعد زوجته ويتفهمها، فقالت لي: أتعتقدين أن كل الشباب مثله؟ يعني ببساطة: كائن آدمي نادر.
عندما تتحدث أي فتاة في مجتمع الإناث العربي عن شابٍ متفهم، لا يضرب، لا يصرخ، ولا يلقي الأوامر كأنه "سي السيّد"، ويترك للفتاة حرية اختيارها دون تدخّل سلطوي، شاب لا يُعيِّرها بأنوثتها، ويشدّ على يديها في طريقها نحو تحقيق أحلامها وعملها، فإنها حصراً تتحدث عن: كائن آدمي نادر.
لا تزال فكرة الذكورية تنتشر في مجتمعاتنا العربية بقوة، وما زالت ترى الفتيات أنّ إبداء رأيهنّ أو اعتراضهنّ أمرٌ مرفوض أمام كلمة الذكر، رغم أن جميع التعاليم الدينية لا تقرّ ذلك، ولا تدعمه، إنما ترفع من شأن المرأة ومن شأن مشاركتها، فسيرة سيدنا محمد -عليه الصلاة والسلام- تكاد لا تخلو بكل مراحلها من دور الأنثى ومشاركتها، في الدعوة، وفي الحرب، وفي المشاعر، وفي النقاش، وفي الجدال والشعر، فكيف يمنع الذكور الإناث من ذلك باسم الدين؟
ويرجع جذر المشكلة إلى الوالدَين اللذين يبدآن بالتمييز بين الفتاة والشاب منذ نشأتهما، وقول كلمات مثل: اسمعي كلمة أخوكِ، أنتِ بنت، شو شايفتيه بنت لينضف البيت؟، اطبخي لأخوكِ.. وهلمّ جرّا. والمشكلة تكمُن في أن هذا التمييز يبدأ قبل تحمّل الشاب أي مسؤولية كمسؤولية العمل مثلاً؛ لذا فإن الأمر يُبرمج عند الفتاة أنه خدمةٌ جبريّة في كل الظروف دون مبررات لذلك، ويبرمج عند الشاب أنّه خدمة جبريّة (يجب) أن تُقدّم له، وتتفاقم المشكلات عندما يُعمم الذكر ذلك على فئة الإناث كلها، بدءاً بزميلة العمل إلى زوجته، إلى ابنته، وكل الإناث حوله.
أرى أن للآباء الدور الأول في تجنّب انتشار هذه الثقافة، بالعدل بين الأبناء وتحميل جميع أطراف المنزل المسؤولية وزرع قيم الاحترام للأنثى ورفع قدرها، مع مراعاة مَن يتحمل مسؤولياتٍ كالعمل والدراسة، وأنبّه هنا "مراعاة وليس حذف دور"، سواءً كان ذكراً أو أنثى، فإنّ الصورة التي تُبنى للفرد في أسرته بما يخص الأنثى واحترامها وخصوصيتها غالباً ما تطبق في المجتمع الذي يحيطه، فإما وعي وتعاون، وإما جهلٌ وظلم.
فإذا تكونت هذه الصورة المتقبِّلة للأنثى، التي يكون دور الرجل فيها دوراً تقويمياً استشارياً لا سلطوياً متحكماً، فإنّ الأُسَرَ حينها ستكون نموذجاً لتقبّل العالمَ بأكمله، واحترام الأنثى، أمّاً كانت أَم أختاً أَم زوجة.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.