على النهر تناولنا وجبة الغداء، مر علينا "آيمرا" يضع الأطباق بجوار بعضها ويرتب الملاعق والمياه على المنضدة الخشبية، لم يختلف دوره كثيراً عن "كمال" الذي يعاونه؛ لكنه بدا غريباً، حليق الرأس في حين يجدل لحيته في ضفيرتين طويلتين تتدليان كنجوم الغناء من "الهييبز" يرتدي ملابس بسيطة ويضع إكسسوارات غريبة ويتحدث إنجليزية جيدة وتبدو ملامحه باهتة وصامتة لا يبتسم إلا قليلاً.
حدثنا عنه الأستاذ معاوية عندما غادر قائلاً: "آيمرا" صاحب المخيم رجل نشيط ومهتم جداً بخدمتنا وتقديم أفضل شيء لديه، شخصيته غريبة ولديه حكايات كثيرة" هكذا وصفه وسكتنا.
على باب المطعم، وقف يدخن في هدوء، وجدتها فرصة للحكي معه، سألته عن بداية إنشائه لهذا المكان وكيف جاء إليه؟
بدأ الحكاية من نقطة بعيدة، حكى عن والده القاسي الذي كان يكيل له الضربات واللكمات يومياً من دون سبب واضح، تحدث عن أصوله الثرية فوالده صاحب مجموعة مصانع للمواد التجميلية الشهيرة بتركيا، استمر يحكي عما فعله معه والده، قال إن الأخير كان يستمتع بإهانته يومياً، ويترك آثاراً على جسده تذكره بما حدث لو قرر النسيان.
أكمل حكايته فقال إنه درس ما أراده والده في سنوات شبابه، عمل كمحاسب في مصنعه ليلبي رغبته، وسائق ينهي مشاويره بعد انتهاء الدوام، ضيع الكثير من الفرص في حياته؛ ليرضي والده الذي لم يرضَ أبداً!
ذات يوم استيقظ من نومه وقرر ترك كل هذا وراء ظهره للبحث عن نفسه، قبل أن يفسد قلبه مما يفعله والده، ترك إسطنبول وعاش في قرية ريفية بعيدة جاء بعدها بعامين إلى هنا، وأنشأ "طاهورة"؛ لتكون مستقرَّه ومصدر رزقه وعائلته.
شغلتني كلماته عن أبيه وما فعله، تخيلت ما كان يمكن أن يحدث لو استسلم لقسوة أبيه، أراد النجاة بقلبه مما يوجعه وترك ثروة طائلة، وجاء يكابد الحياة؛ لينجو بقلبه من القسوة، قال إنه لو بقي كان سيقْتُل ويضيع طيبته، أعجبني صبره وحسمه قبل فوات الأوان.
في بحثنا عن فكرة لمشروع تخرجنا كان "آيمرا" أحد الاقتراحات دخل المنافسة مع غيره وفاز، بدأنا رحلة تفتيشنا في حياته؛ لنحصل على أكثر مما توقعنا.
يوم التصوير، بدأنا بتفسير لشكله الغريب، توقعنا أن يحكي عن نجمه المفضل وراء هذا الشكل العجيب، كعادته أخذنا الرجل إلى مساحة أخرى لم نفكر فيها من قبل.
قال: "أنا تركي مسلم، قبل سنوات كنت شخصاً عادياً قررت إطالة لحيتي للتغيير فوجئت باحترام المتدينين لي وتقربهم مني، مللت من التعامل غير المبرر من أغلبهم فقررت التخلص من لحيتي تماماً، فوجدت آخرين يهنئونني على العودة إلى طبيعتي التي تناسبني أكثر، في حين ضجر مني من احترموني قبلاً، بعد فترة أطلت لحيتي ثم قصصتها هكذا لتبقى منها هذه الشعرات المجدولة، فلم يحبني أحد غير أصدقائي الحقيقيين، وقتها شعرت براحة شديدة فأنا لا أحب المظاهر الخداعة".
هكذا إذن، دخل الرجل معركة بسمعته وحياته ووضعهما على المحك ليختبر الناس من حوله، واستطاع في النهاية أن يفعل ما يحب من دون النظر إلى رأي الآخرين فيه.. تذكرت وقتها قلقي الدائم من رأي الناس في تصرفاتي، شكل ملابسي وطريقة حديثي، صوت ضحكتي، يا لها من سنوات ضيَّعتها، بقيت أسيرة لهذا التقييم سنوات وما زال داخلي بعض منه.
عرجنا على حياته الشخصية وأسفاره، توقعنا أن يخبرنا عن مغامراته كرحالة يجوس الأرض بحثاً عن أحلامه، فقد أخبرنا قبلاً عن وشاح الأريكة الذي اشتراه من الهند وتلك الهدايا المعلقة في مطعمه من الصين، فقال عابثاً: "أنا لا أحب السفر، أفعل ذلك لإرضاء أسرتي فقط"، وجدتني هنا متعجبة من هذه التفاصيل المتناقضة داخل رجل واحد.
طالت ساعات التصوير وبدأ يتململ منا، أخذه زميلانا عبدالرحمن وعقبة إلى النهر، وأكملا معه التصوير بطريقتهما، بدا أكثر راحة وهو يحكي مترجلاً، تحدث معهم عن الله، والصلاة، والقرآن، وقال إنه يغبطنا؛ لأننا نفهم القرآن ببساطة من دون ترجمة، ونستطيع حفظه وتلاوته بفهم تام، فيما يردده هو وقت صلاته من دون أن يفهم أكثره، واصل حديثه عن الله، وسمع الأذان فاستأذن ليصلي.
شعرت بالحرج كثيراً أمامه، وتذكرت حكاية أستاذنا عن مسلمي البوسنة، وكيف كانوا يعتبرون العرب المسلمين مثل الأنبياء؛ لكونهم فقط يتحدثون لغة القرآن.
ذهبنا لمنزله لنتعرف على جانب آخر في حياته، بدا البيت صغيراً بالنسبة لنا، ولكنه منظم وجميل ويحمل من روح صاحبه الكثير، تتناثر الصور والأشكال على جدران المنزل، ويبدو لزوجته "ديدا" بصمة واضحة، الحوائط تتزين بقطع جلدية صنعتها بنفسها، وتتناثر صور عائلية على باب البراد، طفلهما عند مولده، مروراً بتعلمه المشي وذكريات أعياد ميلاده، وعلى اليسار صورة لزواجهما.
"ديدا" لا يقل مظهرها غرابة عن زوجها، جانب من شعرها قصير جداً كالرجال، والجانب الآخر طويل مجدول، وتصبغه بلون بنفسجي فاقع، يشي بامرأة غير عادية، ترتدي تنورات ملونة ومزخرفة بأفيال وحيوانات ملونة وزاهية، ولكن شيئاً ما في روحها يجعلها بسيطة سلسة تسكن القلوب سريعاً، ربما ابتسامتها التي لا تفارق ثغرها وروحها المنتشرة في المكان؛ لتترك حباً خالصاً لزوجها وابنها ولطاهورة، وحتى الزوار أمثالنا كان لنا نصيب من محبتها.
حكت "ديدا" عن لقائها بزوجها في تلك القرية التي زارتها للعمل، قالت إنها التقته مرات عندما كان يسكن القرية ذاتها، التقيا واتفقا على الزواج. قالت إنها تحبه، ولكنها كانت خجلة، وهي تعلن تلك المحبة، حملت ابنهما الصغير وودعتنا؛ لتواصل عملها في تحضير الطعام، وترتيب المخيم.
خرجنا لشرفة المنزل هناك جلس "آيمرا" على باب منزله يدخن بسكون، يحمل دخانه هموماً تبدو ثقيلة على صاحبها، حدثنا عن مزاجه الشخصي، وسره مع الله، وقال إنه يشرب "العرق"، وهو مشروب كحولي شهير في تركيا، واصل حديثه قائلاً: "أشرب الخمر وأدخن السجائر وأصلي وأدفع زكاتي وأحب أسرتي، أعتقد أن الله يحبني هكذا".
"لست نبياً، أقترف الكثير من الأخطاء، ولكنني لا أُخفيها كما يفعل البعض، أعيش حياتي فأخطئ وأصيب"، قالها "إيمرا"، وهو ينفث دخان سيجارته كفيلسوف يترك وصاياه، لخص حياته في جملة بديعة.
ذكرتني اختيارات الرجل الغريبة وربما الفذة أحياناً بمقولة للرئيس البوسني، والمفكر علي عزت بيغوفيتش: "ليست عظمة الإنسان أساسها في أعماله الخيرة، وإنما في قدرته على الاختيار، وكل من يقلل أو يحد من هذه القدرة يحط من قدر الإنسان".
كيف للرجل أن يكون غريب الشكل ظاهرياً فيما يبدو داخله بسيطاً جداً، وكيف استطاع أن يصل لهذه القناعات العميقة وينفذها ببساطة رجل عادي هكذا من دون تكلف؟
فعلت مثلما يفعل غيري دوماً، حكمتُ على ظاهره فاستنكرت مظهره العجيب وشربه للخمر وصلاته في آن، وأثنيت على جمال منطقه واحتفائه بقناعاته بعيداً عن رأي الناس.. ومن أنا لأحكم عليه من البداية؟!
تذكرت قاعدة من قواعد العشق الأربعين سطرتها في مدونتي قبل النوم: "لا تحكم على الطريقة التى يتواصل بها الناس مع الله، فلكل امرئ طريقته وصلاته الخاصة، إن الله لا يأخذنا بكلمتنا، بل ينظر فى أعماق قلوبنا، ليست المناسك أو الطقوس هي التى تجعلنا مؤمنين، بل إن كانت قلوبنا صافية أم لا".
في غرفة نومنا الصغيرة بحثت ورفيقتي عن قداحتنا لنشعل المدفأة فلم نجدها، كان البرد شديداً، خرجت أبحث عن واحدة لدى جيراننا، في الجوار كان عبدالرحمن ويارا، عاشقا مخيمنا الجميلان، مستيقظين يضحكان بود، ويتبادلان النظرات على مهلٍ، عرضا عليَّ مشاركتهما جلسة سمرهما، لم أرد أن أكون عزولاً، استعرت القداحة ومضيت سريعاً، وددت لو كتبت عنهما الآن، ولكن اليوم كان مجهداً، فمرحباً بالنوم، على وعد بحكاية تليق بهما.
يمكنكم الإطلاع على السلسلة من خلال الروابط الآتية :
في حضرة الحكاية "1"| هل صادفت الشغف؟!
في حضرة الحكاية "2" | لا تنسَ.. أحضر قلبك معك!
في حضرة الحكاية "3" | عن ورود حياتنا وأشواكها
في حضرة الحكاية "4" | غامر… لا تدع الخوف يأسرك!
في حضرة الحكاية "5" | فكر جيداً.. ماذا ستترك من أثر؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.