فرنسا، وألمانيا، وإنجلترا، وإسبانيا، وإيطاليا، كل تلك البلاد تأتي لمخيلة أي إنسان تسأله عن الحداثة الغربية، لن تلتقي بشخص دارس للحداثة الأوروبية لا يعرف قيمه اسكتلندا وما أنجبته من مفكرين وفلاسفة أثروا في الفكر الأوروبي الحديث.
وأي إنسان يعيش في العصر الحالي متأثر بالفكر الغربي الحديث، وبالتالي لعبت أسكتلندا دوراً في بلورة العصر الذي نعيش فيه، ولكن على الرغم من أن اسكتلندا أنجبت مفكرين كباراً مثل جيمس ستيوارت، وآدم فرغسون، وجيمس واط، وجيمس هتون، وجوزيف بلاك، وفرانسيس هوتشيسون، ودافيد هيوم، وآدم سميث، فإنها كانت في تلك الحقبة الزمنية تعد أفقر الدول الأوروبية.
أي أن الرجل (آدم سميث) الذي يعتبر الأب الروحي للنظام الاقتصادي المهيمن عالمياً كان صنيعة إحدى أفقر الدول الأوروبية، ولكن على الرغم من أن اسكتلندا كانت أفقر الدول الأوروبية مادياً فإن آدم سميث وجد نفسه في بيئة غنية جداً بالمفكرين، ومن هؤلاء المفكرين، دافيد هيوم وفرانسيس هوتشيسون.. يقول سكوت مونتغمري في كتابه "الشكل الحديث: أربعة أفكار شكلت العصر الحديث": "إن آدم سميث كان فيلسوفاً أخلاقياً مثل معلمه هوتشيسون، ولكنه بواسطة الطموح والإنجاز كان يعتبر فيلسوفاً بصفة عامة مثل صديقه دافيد هيوم".
بالنسبة للكثير هذه تعتبر صدمة؛ لأن معظم الناس يفصلون بين الاقتصاد والفلسفة، ولكن الحقيقة هي أن داخل بطن كل فكرة اقتصادية هناك فلسفة أخلاقية، وتلك الفلسفة الأخلاقية ترتبط بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بالدين الذي يشكل نظرة الإنسان للحياة.
فرانسيس هوتشيسون ودافيد هيوم كانا كاتبين مشهورين لهما نفوذ في الوسط الأكاديمي والفكري الأوروبي، ولهما كتب عدة عن الأخلاق والعلاقات الاجتماعية، والمجتمع التجاري وحثا آدم سميث على أن يدرس الفلسفة العملية، أي تلك الفلسفة التي تبحث عن مبادئ الطبيعة البشرية.
حتى نفهم تأثير العلم الطبيعي في هذه الحقبة الزمنية فقد استخدموا مصطلح "Principia"، الذي استعمله نيوتن (Newton)، وهذه الكلمة تعني قانوناً طبيعياً، أي أن هدفهم الأكبر كان تفسير كل شيء عن طبيعة الإنسان: لماذا يذهب إلى الحرب؟ لماذا يحب؟ لماذا يبغض؟ لماذا يبني دولاً؟ ماذا يجعل الإنسان سعيداً وحزيناً؟.. إلخ، كان هدفهم قدر استطاعتهم أن يستعملوا الفلسفة لخلق أوروبا أفضل.
وبالنسبة لهم فأوروبا أفضل تعني أوروبا أغنى بالمفهوم المادي؛ لذلك ما يجب أن يعرفه الكثير من الناس أن الاقتصاد ليس فقط مجرد استيراد وتصدير أو أرقام بعيدة عن الواقع، بل إن لب الاقتصاد هو فهم كيف تزيد من إنتاجية المجتمع ككل عن طريق فهم الإنسان وطبيعته.
يتذكر الناس آدم سميث على أنه اقتصادي، ولكنه في الحقيقة كان فيلسوفاً يطمح لفهم الإنسان كما حثه معلمه الأول فرانكس هوتشيسون.
هوتشيسون كان له فكرتان رئيسيتان يعلمهما لكل طلابه: أولاً، أن فطرة الإنسان ليست فاسدة، كما كما كانت تعلم المسيحية لفترة طويلة. ثانياً أن أقوى وأنفع العلوم هي تلك التي تستطيع أن تراها، وتكون دليلاً لشيء حقيقي مادي.
تأثر آدم سميث بكتاب هوتشيسون: "نظام للفلسفة الأخلاقية – A System of Moral Philosophy" الذي كتبه في عام 1755، في هذا الكتاب يطرح أفكاره عن أهمية الحرية الدينية والمدنية من أجل التقدم الاجتماعي وعن أهمية وجود فلسفة عملية تكون وثيقة الصلة بالتقدم العمراني.
الكثير من المفكرين الكبار في الكثير من الأحيان يختزلون كتاب آدم سميث "ثروة الأمم – Wealth of Nations" بأن أهم فكرة في كتاب آدم سميث هي "الحرية" وهذا نظراً لتأثره بهوتشيسون، على الرغم من أن هذا اختزال بالفعل فإن آدم سميث لم يتأثر فقط بهوتشيسون، ولكنه تأثر بهذه الحقبة الزمنية الأوروبية التي كانت في صراع طويل مع الاستبداد وترسم مفهوم معيناً "للحرية".
في الخاطرة القادمة سأكتب عن دافيد هيوم.
في النهاية، سأتبع الأسلوب السقراطي في طرح الأسئلة وأترككم بأسئلة أكثر من أجوبة:
أولاً: هناك إجماع من الفلاسفة على أنه لا يوجد حرية مطلقة، إذاً ما هو مفهوم "الحرية" الذي أصبح مركز الفكر الغربي؟ وكيف نفسر مفهوم الحرية بما يتناسب مع وضعنا؟
ثانياً: كيف كانت اسكتلندا أفقر الدول الأوروبية وهي تمتلك أفضل العقول الأوروبية؟ هل نحن كدول عربية وإسلامية في نفس المأزق؟
ثالثاً: هل فلسفة العلوم التجريبية الغربية سبب تطور الرأسمالية؟ وما موقفنا كمسلمين من فلسفة العلوم التجريبية؟
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.