يا من تركتم غزة.. كيف وجدتم الحياة هناك؟!

أنتم يا مَن تجلسون الآن على شرفات باردة، اصدقوني القول: كيف رأيتم الحياة هناك؟! كيف اقتنعتم بهذه السهولة بأن الأحلام ستكون أجمل في وطن آخر، وبأن الحياة ستتوسع آفاقها في وطن آخر؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/20 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/20 الساعة 06:46 بتوقيت غرينتش

فاجأني زوجي قائلاً: أنا أبحث عن فرصة للهجرة وربما وجدتها بالفعل، هذه الجملة التي كان يختبر فيها رأيي وولائي، وردة فعلي لا أكثر، صدمتني، وأسقطت القلب في القدمين، وما أرعبني أنني لا أملك رأياً واضحاً تجاه هذا الموضوع، هل يجب أن نبقى في غزة؟ أم من الأفضل أن نرحل؟!

هذا السؤال الذي كانت إجابته لا نقاش فيها مطلقاً، أصبحت اليوم محل شك!
هل أرفض؟ بماذا يمكنني أن أتشبث هنا؟ وكيف أقنع أطفالي بأن بقايا هذه الحياة يمكن أن تكون وطناً؟ هذه البقعة المحاصرة منذ عشر سنوات وطن، كيف يمكن أن أقنعهم بأن أسطوانة "القادم أفضل" ليست أسطوانة مشروخة؟ وبأن سنوات ابنتي ياسمين الثماني التي خاضت فيها ثلاث حروب، سيأتي بعدها انفراجة؟!

أتعجب، ما الذي تغير؟ غزة ببلاويها الثقيلة ما زالت كما هي، تروح المحن وتجيء منذ الأزل، لم تتغير غزة، ولم تصل إلى ذروة المأساة كما يقول من تركوها، لكن التخلي عنها هو الذي وصل ذروته!

وأسأل نفسي كل يوم: مَن هذا الذي أقنعنا بأن الحياة في مكان آخر ستكون أفضل؟ وكيف تحولت كل القلوب إلى هذا الحجم من القسوة والقدرة على التخلي؟ ربما معادلة لم يفكر فيها من كانوا أطرافاً في هذه السلسلة الطويلة من المآسي والعقبات والتآمر على هذه البقعة، التي أدت إلى مراهنة شعب غزة على كل شيء، وتفريطهم في كل شيء، بدأً بالبيت وحتى باب المدرسة؛ لأن كل شيء معرض ببساطة للخطف والاغتيال، والسلب من تلك الدائرة.

فلا داعي من البداية لهذا التعلق، ولا داعي لتكوين قصص عشق وذكريات لن تبقى.. هل كان يعلم أولئك أن الصمود للأبد معادلة صعبة، يصعب تحقيقها؟!

أجل أولئك الذين أداروا هذه القصة لم يعتقدوا أن الإنسانية والمشاعر ستنتهي إلى اللاشيء، حتى يعز فيه الوطن والأهل، ويصبح الهروب هو الحل الأمثل، للجميع، لأن الموت ببساطة يهوِّن ما هو دونه، كل شيء بعد سلب الروح من الجسد لا قيمة له، وكيف يكون هناك قيمة لأرض بدون أصحابها، بدون عشاقها، بدون الفرح، بدون رغبة حقيقية في الحياة؟!

كيف يكون هناك حياة، وأنت تعتقد في كل لحظة أن شخصاً ما يقف خلف الباب حاملاً سكينا لقتلك، دون أن تعلم مَن هو، عدو أم صديق؟ بعد أن فتحت كل الجبهات أمامك، انقسام، حزبية، واسطة، مصالح لا اسم للوطن بينها، أجل أنت لم تعُد تعلم، حق من باطل، صدق من كذب، وطن هذا أم غربة، أهل أم أعداء، سجن هذا أم حرية، لا تعلم إلى أين تذهب، وإذا ذهبت، هل صحيح ما فعلته أم خطأ؟

لأن الكراهية أصبحت لا تطاق، وعدم الثقة في المكان والزمان والأشخاص أصبحت شيئاً مرعباً يغلف القلوب.

وأولئك الذين بحثوا عن فرص أخرى، وأوطان أخرى، صورهم تزين صفحاتهم، دون أن يخبرونا، هل هم سعداء حقاً كما كانوا يعتقدون؟!

ابني يردد على مسمعي بعد أي اقتراح أو حلم نرسمه سوياً، بأنه لن يبقى في غزة، ابنتي تتمنى بأن تكمل بقية حياتها في بلاد أخرى، وتسرد على مسامعي كل يوم ما حصلت عليه من معلومات "أعرفها مسبقاً" عن مفارقات في الحياة والقوانين بين المكانين، والمناداة بالعدل، وتطبيقه الحقيقي، والإسلام بالكلمة، والإسلام بالفعل، وكل ما رحل من عالمنا هنا، وكيف طبق أيضاً هناك، حتى لدرجة أني أشعر بأني مسلوبة الدين، وعلي فوراً أن أبحث عن ديني هناك!

أجل، أنا، أنا التي أقرأ كل يوم "قالوا كنا مستضعفين في الأرض…"، وأخاف أن أكملها، حتى لا أتألم أكثر حينما يقول لي الله: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها…"، أنا التي عشت تجربة الغربة بكل تفاصيلها عبثاً أقنع أبنائي بأن غزة أجمل من غيرها، أو بالأصح، لم يعد لديَّ القدرة على إقناعهم أكثر من ذلك!

روتينية الحياة المؤلمة التي أصبحوا جزءاً منها، الشارع الذي يفصل بين بيتي وعملي، وذلك الآخر الذي يفصل بين البيت والمدرسة، وذلك الثالث، الذي يفصل بين البيت وعمل زوجي، ثلاثية الشوارع التي نحياها يومياً، والتي تحمل لنا غداً لا نعرف ما هي أسراره، ولا نستطيع تنبأها، هي ذاتها الثلاثية التي سنحياها في أي وطن آخر، عبثاً أقنعهم! لأنهم يقفون بين كل سطر وآخر، ليبدأوا حرباً جديدة تنهي كل الأحاديث، وتلجمني.

أنتم يا مَن تجلسون الآن على شرفات باردة، اصدقوني القول: كيف رأيتم الحياة هناك؟!

كيف اقتنعتم بهذه السهولة بأن الأحلام ستكون أجمل في وطن آخر، وبأن الحياة ستتوسع آفاقها في وطن آخر؟ وهل يمكن أن تتحمل شوارع السويد أو كندا أو أميركا أو ألمانيا كلمات عن غزة؟ وإذا امتهنت الكتابة هناك من أين يمكنني أن أبدأ قصتي الجديدة؟! وأشخاصي الجدد، وأماكني الجديدة.

يعود ذلك السؤال إلى عقلي يكاد يقتلني: "ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها"؟

لماذا لا أبحث عن وطن آخر؟ لماذا لا أسكن في أرض كل أبوابها مفتحة؟ لماذا هذا التشبث الغريب ببقعة تلوثها مياه بحر ممزوجة بمياه الصرف الصحي، وشركات تتحكم بنور وظلام بيتك وكمية المياه الواصلة إلى حمامك، وثمن مكالمات الهاتف التي لا تعرفها، وتلك الشواكل التي تدفعها، دون أن تدري أحقاً أرادوا بها أم باطلاً؟!

لماذا لا أبحث عن وطن، تتضح فيه كل الصور، بدون فلان أو ابن فلان، بدون موتى في المستشفيات بلا سبب، بدون علاجات مقطوعة في الصيدليات، بدون تلك اليد الموضوعة على الصدر خوفاً وتحسباً.. بدون كتابات على قيد المصلحة الحزبية، ورقابة ذاتية على ولاء الوطن وانتماءاتنا؟!

وأين نذهب بالولاء؟ لماذا الولاء؟ وما هي أهميته؟ إذا كنا سنغير الوطن، ونغير اللغة، ونغير الأصدقاء، ونغير البيت، والسيارة، واللباس، والمستشفيات، وطريق المدرسة والعمل، وحتى نوع القهوة إلى نبدأ بها يومنا، وكلمة السلام عليكم، وصباح الخير، وتلك المشاعر التي نحملها في قلبنا حينما نودع أبناءنا كل صباح، وتعويذتنا لهم، أيضاً ستتغير، ودعاء الصباح، قد يتغير، ولكن، هل يا ترى سيكون المقابل كما كنا نحلم؟!

كل ما جمعناه هنا في عمر توارثناه سيتغير فهل هناك وقت لنبدأ من جديد، في وطن جديد؟ أريد إجابة صادقة، يا من تركتم غزة ورحلتم.. كيف وجدتم الحياة هناك؟!

والأهم.. كيف هو الموت هناك؟ فأنا لا أريد أن أدفن في قبر بارد.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد