كلما تعمقت بنظرتي إلى الحياة وجدتها أكثر دعوة للدهشة والاستغراب كأننا نتعرف على بعضنا لأول مرة، نعيش في شرق حزين حولّه الإنسان البشع إلى مكان كئيب ومهجور، بعد أن كان قِبلة للسائحين وملاذاً للمحبين.
فتحولت لغتنا الشاعرية الجميلة ببحورها الستة عشر ومعاجمها ومفرداتها التي لا تحصى إلى مفردات سياسية عقيمة وقاتمة، لا تخلو من الشتائم والألفاظ النابية والاتهامات المبطنة تتشبع بها أسماعنا كل يوم منذ عقود، ليس هذا بالطبع ما اكتشفته فهذا أمر بات يعرفه حتى الجنين في بطن أمه، قبل أن ينضم إلى قافلة المهمشين.
أهل هذه اللغة غاب عنهم النور والضياء وكل ترانيم الكلام، فالعالم الآخر يزخر بالخير، ويعيش واقعاً لا علاقة له بواقعنا، والحياة متوازنة عادية بحلوها ومرّها على عكس حالنا؛ حيث توقفت عقارب الساعة، وتوقفت العقول، وتوقفت الأذواق، وتوقفت الرحمة، وتوقفت الإرادة، وتوقفت الحضارة، وماتت الحرية.
بشر يولد، وآخر يموت على مر الأيام والسنين، وما زال الموت يحتضن أيامنا، والاستبداد يغتصب أحلامنا، شيء واحد بقي ينبض في شرقنا وسط كل هذا الظلام، وهو القلب، ولقد شربنا وتشبعنا من ماء الحروب المليئة بالدماء، والخطب العسكرية، واستعدادات الطوارئ، والمخططات الصهيونية، وفرض العقوبات والثورات والبطالة، والقتل البارد والفساد الإداري والمجتمعي، والأسلحة الكيماوية والبيولوجية والهجرة والتهجير.
في البداية كنا نعزف على وتر فلسطين العروبة، وكانت مشاعرنا القومية تحترق شوقاً للقدس وتحرير الأقصى، ثم توسعت الدائرة وكانت فاجعة الشرق في العراق، وحيث إن المسلسل الدموي فاقت بطولته كل المسلسلات المكسيكية والتركية، فامتد نحسه إلى تونس الخضراء وليبيا ومصر، باسم الربيع العربي، ثم فجأة وبلا أدنى رحمة سوريا الجريحة، بكل عروبتها وشموخها، وقعت كالصقر الجريح.
مع كل هذه الأحداث الدامية والمشاهد اليومية المروعة، ما زال القلب ينبض، إن القلب يحتاج إلى الحب والدفء حتى يستمر بالنبض بشكل يومي، لكن الحرب كانت الفاجعة الكبرى التي أجبرت القلب على النبض بشكل مخيف.
إن البشر عادة ما يسألون أنفسهم لو لم تحدث الحرب ماذا كان سيحدث؟ ولو كان الحب هو البطل في هذه الدنيا ماذا كان سيحدث؟
سأجيبكم، فبعضكم سيجيب بأنه لولا الحروب في العالم لبقيت الكرة الأرضية في ازدهار، ولولا الحب في حياة كل إنسان لعشنا في دنيا النعيم، فالحب والحرب اختلاف وتشابه.
فالتشابه هو في كليهما، نضحي بالكثير من أنفسنا ومن عالمنا، في كليهما أيام مد وجزر، أيام قتال عنيف، وأيام هدنة هادئة، في كليهما المكائد مباحة من أجل النصر، والفوز بقلب من نحب.
والاختلاف هو في الحرب، تعرف جيداً من هو عدوك ومن هو صديقك، ولا تحمل في داخلك سوى العداء لمن تحاربه، ولكن في الحرب قد يكون من يقاتلك هو نفسه من تحب.
في الحرب قد يكون الاحتلال جزئياً، ولكن في الحب لا رحمة، فالاحتلال كلي، والسيطرة والقوانين الجبرية فرض.
في الحرب يكّرم الشهداء ويذكرون أمد الدهر، ولكن في الحب قد يستشهد قلبك في سبيل إثبات حبك، ولا تجد حبيبك حتى يقيم له جنازة تليق به، أو يبكي على قبره.
وفي النهاية أقول: في الحب والحرب غالب ومغلوب، لا بد أن ينتصر الطرف الأكثر جهداً وصبراً وثقة، لا بد أن ينتصر من هو أكثر ذكاء وخبرة في إشعال نار الحب وإيقاظ سعيرها، دون أن تحرقه.
في الحب والحرب تقام العمليات الانتحارية، التضحية بالنفس في سبيل أوطاننا، والتضحية بكبريائنا أمام شوقنا لحبيبنا، واتباعنا خطاه مهما قسا علينا، فقط لصالح قلوبنا المعذبة.
نسفك الكثير من الدماء، وتجري الأنصال في شرايين أرواحنا، لكن نصبر ونقاتل حتى يعم السلام.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.