فاز “بوب ديلان” بجائزة نوبل للآداب

فاز بنوبل للآداب وانتصر بالشعر؛ لأنه أجاد الكتابة، وأجاد الغناء، وأجاد البحث عن نفسه، ووجدها في كتابته وفنه وعالم، نأى عنه لفترة وعادت به الجائزة لتؤكد انتصار الأدب على هوية نأت به عن الحياة اليومية والناس في كل مكان

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/18 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/18 الساعة 03:49 بتوقيت غرينتش

خبر فوز بوب ديلان بـ"نوبل للآداب" هو الخبر الذي بدأ نهاية الأسبوع فعلياً معي، فرحت بالخبر لأنه انتصار للشعر، والفن، والموسيقى، والتفرد، والرؤية الذاتية لقدرة الإنسان على التعبير والتفاعل المباشر مع الحاضر، وأخيراً لأن الشعر فن أدبي يتمرد على مختلف الرؤى التي تحد من قدرته على الوقوف مع الإنسان في تفاصيل يومه والمجتمع في مختلف حكاياته.

يغني لأنه يرى أمامه أحداثاً عالمية ومحلية لا يمكن له تجاوزها دون أن يكتب ويغني، ومن ثم يردد جمهور ما هذه الأغنيات؛ لأنها تعكس رؤيتهم المستقلة عنه لحياتهم.

الحديث عن الشعر، سواء كان عن زهير بن أبي سلمى ومعلقاته، قد لا يختلف حين تكون صورة درويش أمامي أو قصيدة لييتس -ويليام بتلر ييتس- وأنا أحاول ترجمتها لتقترب أكثر بلغتي العربية، وبالمثل ديلان توماس الذي نقل ذاته لقرائه، واحتفظ لنفسه بمسافة من الغموض سمحت له بأن يكون ناقلاً للنور، وإن كان يرى الظلام.

الكتابة عن الشعراء بالذات، أو من وجد الشعر مستقراً في كتاباتهم أكثر من أي فن آخر ممتعة؛ لأن الشعر قرب من الذات ورغبة في الوجود، وأحياناً هو إعلان هوية، كما كتب ييتس مرة: "أنا الشاعر ويليام ييتس".

علي المقري، روائي من اليمن، قرأت له ثلاث روايات والأقرب لي منها هي اليهودي الحالي، وبصدق أعترف أنني لم أعرفه إلا روائياً أعادني لقراءة الروايات بعد انقطاع، واكتشفت منذ مدة قصيرة نسبياً أنه شاعر، وكما هي شخصياته في إدراك لمساحات هوياتها (طعم أسود.. رائحة سوداء) هي في بناء مستمر روحه التساؤل وجسدها مطمئن "اليهودي الحالي"، إلا أنه في قصائده انتقل إلى الذات أكثر، وخف الزحام الذي يأخذ الإنسان في إعصار يتمسك كل فيه بأقرب معرفة لذاته وبمن هو بجانبه رغبة في الأمان.

الشعر مساحة تعطي حرية لهذه الكتابة عن الذات، وهذه القراءة للواقع اليومي، وللوقوف على الذاكرة والمشي نحو الأمل، أو ربما الوقوف على بُعد خطوات من اليأس، وإدراك أنه حال إنسانية لا تخيف، وإجادة قراءة الإحباط قد ترافق هذا الإدراك ليرى الإنسان ذاته في مرآة أخرى، فيها من الصدق ما ينعكس على ذاته، وعلى الآخرين.

أعود لديلان الذي أرى في فوزه احتفالاً بالشعر كفن، واحتفالاً بإنسانية الأدب وبتمرده على حدود المسميات.

واجه فوزه الكثير من الانتقادات التي ركزت على اهتماماته الموسيقية أو هويته، التي هي في رأي البعض لا ترتقي إلى تسميته بأديب أو شاعر، وكتب البعض أن آراءه السياسية محل جدل، ولا بد من أن ينتقد فوزه ولا يبرر بإنجازاته على مدى العقود الماضية، هناك من انتقد فوزه أنه شهادة على عنصرية القائمين على جائزة نوبل تجاه النساء، وهناك من كتب أن القائمين على الجائزة يريدون حصرها بقدر الإمكان على كل رجل أبيض، وأن فوز النساء أو الجنسيات الأخرى يشكل نسبة ضئيلة في تاريخ هذه الجائزة.

قرأت معظم هذه الانتقادات على تويتر، وصفحات الفيسبوك والصحف التي قدمت قراءة لفوزه مثل النيويورك تايمز، والواشنطن بوست، والغارديان، والإندبندنت.

كل انتقاد يجد له مكاناً منطقياً بالتأكيد؛ لأن الأدب لم يكن يوماً ليكون معادلة حسابية نتفق جميعاً على وضوح نتيجتها ومحدوديتها مثل "1+1=2″، لكن من المهم إدراك أن فوزه هو انتصار للشعر، الذي لا يمكن له أن يقف مكتوف اليدين تكبله رؤية نخبوية له تنأى به عن الحياة اليومية أو رؤية تصنفه بأنه الفن الذي لا بد أن لا يفهمه أحد، أو هو ما يضيع في الترجمة، كما قال روبرت فروست.

أغاني بوب ديلان لم تكن سهلة أبداً، ولم تكن مباشرة في معانيها ولا حتى الموسيقى، صوته لا يمكن أن تسمعه لتجد نفسك تبحث عن لحظة تبتسم فيها، بل هي دهشة تسيطر على عينك وقلبك وعقلك، لتجد نفسك في حال من الذهول لاقترابه من يومك ومن يومه الذي قد يكون منتصف السبعينات من القرن الماضي، أو قبله، أو بعده، ولا تجد غرابة في موازاة ما كتب وغنى ولحن معك.

ترجمت مجموعة من أغنياته خلال دراستي في الجامعة مع قصائد لديلان توماس، وويليام بلايك، وويليام بتلر ييتس، وبدر شاكر السياب، ومحمود درويش ولا أذكر من أيضاً.

كانت الفكرة أن الشعر اتفاق ضمني على حاجة الإنسان للوقوف على مسافة واحدة بين ذاته التي يعرف والعالم الذي يعرف للكتابة عما لا يعرف.

أتذكر أن الأستاذ المحاضر سألني كثيراً عن سبب تركيزي على الشعر أكثر من غيره، وبعد ذلك حاول أكثر من مرة أن يبدل لي تخصصي الدراسي؛ لئلا تكون رسالتي عن الشعر، وكان له منطقه الذي لم أفهمه أبداً.

انتهت المهمة بأن أعطاني معدلاً عالياً وأرفقه بنصيحة "لا يهرب منك شغفك"، وهنا عرفت أنه فهم أنني لم أختر الاقتراب من الشعر عبثاً، وأنه ذكي في قراءة أوراقي وترجمتي؛ لأنه قرأ فيها شغفاً ولم يقرأ نقداً أدبياً فقط.

الشعر شغف في أوله ونهايته بكل ما يمكن كتابته عن اللحظة، عما مضى وعن غد لا يمكن لنا إلا أن نتأمله، ولو كان لم يأتِ بعد.

"سئمت تكاليف الحياة" يكتبها زهير بن أبي سلمى، وأظنه كان في لحظة من اليأس لم يفهمه من حوله، وكتب بعدها: "ومن يعش ثمانين حولاً لا أبا لك يسأم".

بدر السياب مثلاً كتب "أحبيني فإن سبعاً قبلك ما أحبوني" ولا أظنه اعترافاً بالضعف إلا أنه توثيق للحقيقة، كتب الرازحي -عبد الكريم الرازحي- "يتقاتلون وأنت تبكي.. يتصالحون وأنت تضحك.. يتقاربون وأنت تنأى.. يتوحدون وأنت وحدك"، يكتب الرازحي هنا شعراً أظنه انتقل بوعيه من عالم لا يمكن فيه إلا أن تراقب بصمت، إلى عالم يكتب فيه عن ذاك الذي اعتاد ممارسة الصمت وإن كان يبدأ من حوله بالحديث.

عودة لديلان الذي بدأ هذه التدوينة كلها، فاز بنوبل للآداب وانتصر بالشعر؛ لأنه أجاد الكتابة، وأجاد الغناء، وأجاد البحث عن نفسه، ووجدها في كتابته وفنه وعالم، نأى عنه لفترة وعادت به الجائزة لتؤكد انتصار الأدب على هوية نأت به عن الحياة اليومية والناس في كل مكان؛ ليفرح مستمع لديلان وقارئ لشكسبير، وباحث في كتابات درويش، وقارئة للمعلقات، ومن أدمن قراءة غادة السمان، ولميعة عمارة وغيرهم كثير.

فوزه أغضب الكثير، وفرح به الكثير، وأدخل على قلبي سعادة وأملاً في الشعر، في الإنسان الذي يحب الكتابة ويحب الرسم، ديلان يرسم والغناء والموسيقى والحياة اليومية والاقتراب من تفاصيلها كل يوم.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

علامات:
تحميل المزيد