قد لا يدرك الإنسان الوجه الخيّر في المصائب أثناء حدوثها، فالإنسان بطبيعته لا يقتنع بحديث من ينصحه بالبحث عن الحكمة في ابتلائه بنقص في المال والأنفس والثمرات، دون محاكمة لنيات ذلك الناصح، بناءً على موقع يده من نار المصيبة، تلك طبيعة البشر.
لكن إن أراد الله بالإنسان خيراً يجعله يدرك هذا الأمر مبكراً، فيحول الخسارة إلى مكسب حقيقي وملموس، وما يسري على الإنسان كفرد يسري على الشعوب كمجموعة.
القضية التي تشغل الرأي العام السعودي حالياً هي قرار إلغاء بعض البدلات مما تسبب بانخفاض الدخل للموظف الحكومي، ورغم أنها ليست المرة الأولى التي تتعرض فيها السعودية لأزمة مالية، لكن لهذه المرة خصوصية تبعث على الأمل؛ لكونها المرة الأولى التي انحازت فيها الأغلبية للوعي، إذ يبدو الشعب أكثر وعياً بحقوقه وواجباته، وتبدو الحكومة أكثر تفهماً لأحقية الشعب في إبداء بعض الحنق تجاه قراراتها.
بعد صدور القرارات، عبّر المواطن بوضوح عن خيبة أمله وغضبه بالطريقة التي رأى أنها مناسبة لنقل وجهة نظره، واشتعلت وسائل التواصل الاجتماعي بالحديث عن القرارات من حيث أسبابها أو تأثيرها فصنعت ما يمكن أن نعتبره حواراً وطنياً رقمياً.
بشكل عام في أي قضية بأي منطقة بالعالم، تكون تلك الحوارات غنية جداً لمن يهتم بمشاهدة الصورة عن بُعد، ومن يريد أن يتأمل الحدث بصورة أكثر شمولية عليه أن ينظر للحدث وردود الفعل مثلما يتأمل لوحة فنية؛ ليتمكن من فهم الرسالة فيها.
الحوارات التي تحدث بعد أي حدث مهمة لمن يريد أن يتجاوز الحديث عن ماهية الحدث، إلى الجزء المهم فيه، وهو التساؤل: ما الذي سيفضي إليه الحدث؟ وهل يمكن استثمار الجزء السيئ فيه لبناء نجاح في مسار آخر متعثر ومتعطش للإنقاذ؟
ردود الفعل في هذه القضية لم تخرج عن سياقها الطبيعي لأي مجتمع غني متدين يواجه مشكلة مالية ضخمة، تعددت الرؤى والأصوات وتنوعت، لكن الغياب الملحوظ في الحدث كان لصوت العقل الإيجابي، العقل الذي يرشد الإنسان كيف يستخدم ذات المصيبة لمواجهة مصائب أخرى مغيبة عن التناول بذات الزخم، مصائب يتسبب بها وفرة المال وليس قِلته.
المشكلة في الحوارات عن المصائب أننا ندور بالحديث في عدة دوائر ونقطع الكثير من المسافات ونضيع الكثير من الوقت قبل أن نصل للتساؤل عن الفائدة المخبأة بجوف المصيبة.
ذلك التساؤل سينتقل بنا من محاولة فهم أو تبرير المصيبة للعمل على تقريب ثمرتها الطيبة، فالمصيبة أي مصيبة مهما بدت فادحة أو كبيرة فالخير مخبأ بجوفها.
قد يحضر سريعاً أو يتأخر، وقد يدرك الإنسان أن ذلك الخير هو ثمرة تلك المصيبة، وقد يموت قبل أن يدرك ذلك، لكن ثمرة أي مصيبة لن تكون جاهزة للقطاف قبل أن يدرك الإنسان أن تلك المصيبة ليست من قبيل الابتلاء فقط، وأن الله تعالى لم يقدرها عليه في جانب من جوانب حياته، إلا لأنه قصّر عن أداء واجبه في جوانب أخرى كثيرة، ليس من الضروري أن تكون ذات صلة بالمصيبة.
من وجهة نظري فإن الثمار بمصيبة انخفاض الدخل كثيرة، لكن الثمرة الأهم هي معالجة لجوء المواطنين للتعليم الخاص هرباً من فشل التعليم الحكومي.
وفرة المال هي التي جعلتنا جميعاً نتجاهل كارثة فشل التعليم الحكومي، الذي هو السبب الرئيسي للفشل في أي بلاد، وليس في السعودية فقط.
علينا مواجهة هذا الأمر، وبمحاذاة غضبنا من انخفاض الدخل يجب أن نسأل أنفسنا عن عدد المرات التي لجأنا فيها للمال لحل مشكلة لا يفترض أن تُحل بالمال.
الوضع المالي الجديد سيجبر الكثير من المواطنين على التنازل عن تعليم أبنائهم في التعليم الخاص، والعودة للتعليم الحكومي، وسيجدون أنفسهم متضررين بشكل مباشر من انخفاض جودة ما يتصل به من مبانٍ أو مناهج وغيرها، وهنا تكمن الثمرة، حين يضطر الجميع لمواجهة هذا الفشل في التعليم الحكومي والمطالبة بتصحيح أوضاعه.
نفس القياس يمكن تطبيقه على الصحة، سيضطر المواطن للجوء للمستشفيات الحكومية ومراكز الرعاية الصحية، سيعني هذا الضغط على وزارة الصحة لزيادة عدد الوحدات لاستيعاب العدد الكبير المتوقع، سيعني أيضاً اهتمام المواطن بتصحيح أوضاع إدارية كثيرة في المستشفيات الحكومية من تعامل مع المرضى ومن يرافقهم، سيعني عجز عدد الأطباء عن استيعاب عدد المرضى، مما سيضطر الوزارة لزيادة العدد؛ لأن ذلك من الأمور التي لا يمكن تجاهلها لفترة طويلة، وبالتالي تعيين كوادر جديدة طبية وإدارية مما يعني المساهمة ولو بشكل بسيط في حل مشكلة البطالة، ليست صورة وردية، إنها نتائج حتمية، وستحدث مع الوقت.
وبعد أخي المواطن الكادح الغاضب، هاتان ثمرتان اثنتان فقط من ثمار تلك المصيبة، فهل ما زلت تعتقد أنها حقاً مصيبة؟!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.