أنت.. كلمة تجاوزت تعريفها

لا أحد يقول أنت مرهق أو تعب أو أنت معذور فيما تفعل، أنت لديك ظروف تجعلك أنت كما أنت، لا أحد يقول أنا مخطئ فعلو الأنا يمنعنا، جلنا نرمي التهم واللوم على الآخرين، بت أسمع كلمة أنت من كل إنسان، من كل من أتعامل معهم، من كل المقربين إليَّ، يكيلون لي أنت، يلقونها عليَّ صباح مساء، لا يهمهم شيء إلا أن أكون أنا كما يريدون هم لا كما أنا.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/16 الساعة 08:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/16 الساعة 08:09 بتوقيت غرينتش

بعد أن شكّوا في قواي العقلية وعدم قدرتي على السيطرة على نفسي وتصرفاتي، بعد أن خافوا مني قبل أن يخافوا عليَّ، قرروا اصطحابي إلى مستشفى الأمراض النفسية رغم مقاومتي الشديدة، هم يريدون الاطمئنان عليَّ، كما يزعمون، أنا أراهم يريدون التخلص مني.

أدخلوني إلى العيادة بعد أن اقتادوني وكأنني مجرم خطير، نعم كنت متعباً وأهذي، ولكنني لست مجرماً، أجلسوني على الكرسي الخاص بالمرضى، جواري ذلك العملاق الذي يعمل بالمستشفى ممن يسمونهم ملائكة الرحمة، أراه من الزبانية وليس ملاكاً إطلاقاً.

سأل الطبيب الأهل: ما هي حالته وممَّ يشكو؟ الإجابة كانت ككل الإجابات التي عادة ما يقولونها في مثل هذه المواقف: والله يا دكتور ما نعرف، فجأة وجدناه على هذا الحال (كم هم كاذبون!).

الطبيب موجهاً سؤاله لي "كنت أتحرك بشكل قوي وعنيف محاولاً التخلص من ذلك المارد، كنت أردد كلمة "أنت" فقط دون غيرها من كلمات": أخبرني ماذا بك؟
أنا أنظر إلى الطبيب وقد اتسعت عيناي: أنت.
الطبيب: أنت ماذا هل تستطيع إخباري؟
أنا: أنت.. أنت.
الطبيب: هل تقصدني أنا؟
أنا: أنت.. أنت.
الطبيب: بمَ تشعر؟
أنا: أنت.

الطبيب يطلب من الممرض الحضور وإحضار حقنة مهدئة وأخذي للغرفة التي طلب تجهيزها لي، وتجهيزي لإجراء كل الفحوصات اللازمة للتأكد من حالتي.

الأهل: ماذا ترى يا دكتور؟
الطبيب: مبدئياً أعتقد أنه يعاني من صدمة شديدة، هل تعرض لموقف أثر عليه أو جعله ينفعل بشكل كبير؟

الأهل: بالعكس الكل يحبه ويرعاه ونسعى جميعنا لإسعاده دوماً (كذبة أخرى، لا أحد يريد أن يتحمل مسؤولية ما يحدث، نرى أننا ملائكيون في تعاملنا مع الآخرين).

الطبيب: حسناً سنبقيه تحت الملاحظة وبعد نتيجة الفحوصات ورسم المخ سنقرر إن كان سيبقى في المستشفى أم أن حالته مستقرة، مبدئياً لا داعي للقلق.

في غرفة خاصة وضعوني، لم يضعوني في تلك العنابر المليئة بالمرضى، لست كغيري، أنا من الأشخاص أصحاب المكانة العلمية والعملية ومن المفكرين والمبدعين، لي العديد من الكتب والأبحاث، كان الطبيب قد شك أن يكون ما أصابني نتيجة التعمق في التفكير، فكثيراً ما يصاب المفكرون بحالات تصل في بعض الأحيان إلى فقدان العقل والهذيان؛ لأن الفرق بين العقل والجنون شعرة، نتيجة الفحوصات جيدة وكل شيء يسير على ما يرام، دخل الطبيب إلى الغرفة وسألني: كيف تشعر؟
أنا: أنت.. أنت.
الطبيب: هل تستطيع إخباري ما بك؟ وفيم تفكر؟
أنا: أنت.
الطبيب: سترى بعض الصور؟ هل تستطيع أن تخبرني ماذا ترى فيها؟
أنا: أنت أنت.
الطبيب: ماذا ترى في هذه الصورة؟
أنا: أنت.

الطبيب وقد يئس من التوصل لحوار مفيد معي، يأس ولكنه لم يفقد الأمل فهذا دوره في الحياة، كتب لي بعض مضادات الاكتئاب وبعض المهدئات وتركني لكي أرتاح، فعلاً كنت أحتاج للراحة، ثلاثة أيام متوالية كان الحال هو الحال، كلمة أنت فقط أرددها باستمرار دون وعي مني، حاول الطبيب بشتى الطرق التواصل معي، كل المحاولات باءت بالفشل إلى اليوم الرابع.

استعدت وعيي، بدأت أتعجب من المكان متسائلاً: أين أنا؟ ما الذي أتى بي إلى هنا؟ دموعي تنحدر على خدي وأنا أنظر إلى كل ما حولي، قلبي مملوء بالحسرة والندم، الطبيب يربت على كتفي سائلاً إياي: هل تستطيع أن تخبرني عن قصتك؟ تنهدت تنهيدة تهد الجبال، تنهيدة تحمل كل ما يمكن أن تحمله من ألم وحزن وحسرة.

الطبيب: حاول الاسترخاء وأخبرني عن حالك، لقد رأيت ملفك وعلمت أنك من الكتاب والمفكرين والباحثين، أرى فيك رجاحة عقلك، ومما أعرفه عنك قدرتك على مجاراة جل الأمور سهلها وصعبها، فما الذي حدث لك أخبرني لطفاً؟

أنا: هل تعلم أيها الطبيب أننا نقتل بعضنا البعض؟ ستسألني كيف؟ سأجيبك ولكن فكر معي في حياتنا، ألا ترى أن الكل يقتل الكل ولا ندري، نرى أننا نصلح بينما في حقيقة الأمر نحن نقتل ونخرب.

الطبيب: لم أفهم ما تعنيه، هلا أوضحت لي؟

أنا: نحن نحمل سلاحاً اسمه أنت، هذا السلاح ذو حدين قلة من يستخدمون الجانب الجيد فيه، وأكثرنا للأسف يستخدمه ليقتل، نعم يقتل، معظمنا في مواقف حياتنا نوجه هذا السلاح بمجرد أن نشعر بالخطر، حتى ولو كان موقفاً بسيطاً من أقرب المقربين لنا، الزوجة تقول لزوجها أنت، هو يبادلها ذلك، الأبوان دائماً ما يقولانها للأبناء أنت وأنت وأنت، في كل مشكلة تظهر أنت، وفي كل موقف لا بد من استخدام أنت.

نحسن استخدام أنت ضد الآخرين ونتفنن في ذلك، نضعها على رقابهم كأنها سكين، تخيل أنك تقول لابنك: أنت لا تفهم، أنت جاهل، أنت متعب، أنت وأنت وأنت، ماذا تتوقع منه بعد ذلك؟ هل ستريده أن يبقى حياً؟

قد يحيا ولكنك قتلته أو قتلت جزءاً فيه أو منه، الأشياء التي لا تعجبنا نقابلها بأنت، الأشياء التي لا نريدها، كل حياتنا أنا وأنت، الأنا عالية وأنت شديدة اللهجة، أنت في كل مكان ومع معظم من يسمى إنساناً، في الشارع، في العمل، في المدرسة، كل مكان بدون استثناء، ثم ماذا بعد ذلك؟ نطلب أن نكون مثاليين أو أن يكون تعاملنا مع بعضنا البعض جيداً ومثمراً، وبناء، وأننا إخوة في أي شيء إن لم يكن الدين فالعروبة أو الحضارة.

الطبيب: أفهمك جيداً، ولكن ما علاقة ذلك بك؟ ما هي الصدمة التي تعرضت لها وكانت سبباً في إحضارك إلى هنا؟

أنا: أيها الطبيب أنا أبلغ من الكبر عتياً، أكتب وأدرس وأفكر وأحاور وأعلم الناس فنون التواصل وقد قضيت عمري في ذلك وكم ساعدت من البشر، مشكلتي تكمن فيمن حولي فكلهم وبدون استثناء دائماً ما يقولون لي: أنت، حتى لأتفه الأمور والأسباب، أرسلت لك رسالة أنت لم ترد عليَّ، عملت معك بجد أنت لم تشكرني، أحببتك وأنت لم تحبني، اجتهدت في إنجاز شيء أنت لم تشاركني الفرحة، أنت عصبي، أنت عنيد، أنت صعب المراس، أنت حاد، أنت كئيب، أنت لا تضحك، أنت مغرور، أنت نرجسي، أنت أفلاطوني، أنت لم تتفاعل، أنت لم تشارك، أنت منعزل عن العالم، أنت تضيع حياتك على العمل والكتب والأبحاث، أنت لا تعرف كيف تحب، أنت تخسر كل شيء، أنت تعني كذا وكذا بكلامك، أنت بارد، أنت غريب، أنت عجيب، أنت كذا..

كل شيء أنت (بالتأكيد سمعتم بعضاً من تلك الجمل تقال لكم أيضاً)، لا أحد يقول أنت مرهق أو تعب أو أنت معذور فيما تفعل، أنت لديك ظروف تجعلك أنت كما أنت، لا أحد يقول أنا مخطئ فعلو الأنا يمنعنا، جلنا نرمي التهم واللوم على الآخرين، بت أسمع كلمة أنت من كل إنسان، من كل من أتعامل معهم، من كل المقربين إليَّ، يكيلون لي أنت، يلقونها عليَّ صباح مساء، لا يهمهم شيء إلا أن أكون أنا كما يريدون هم لا كما أنا.

أنت كما نريدك أن تكون، أنت كما أنت لا تصلح، أنت عليك كذا وكذا، ألوف من هذه الأنت حتى بت أشك في نفسي، هل فعلاً أنا كما يرون؟ هل أنا لا أجيد شيئاً مطلقاً؟ هل أنا فاقد الأهلية والشرعية كما يرون؟ هل أنا أحتاج للعلاج كما يحصل الآن؟

لمَ لا نعيش حياتنا دون إلقاء اللوم على الآخرين أو الهجوم الشرس عليهم؟ من أخطأ نحاول أن نفهمه خطأه بدلاً من سلاح أنت الذي يضر أكثر من النفع.

إن استمر الحال على هذا النحو فلن نعيش، قد نعيش ولكننا سنكون في عداد الأموات، هذا ما أتعبني أيها الطبيب وهذا ما أوصلني إليك، يريدون إلغاء شخصيتي وبناء شخصية هم يريدونها وهذا محال، إن كنت لا أستطيع العيش معهم، سأبقى هنا، هنا لا أحد يقول أنت، من يهدمون كل شيء لمجرد أنت هم من يستحقون عنبر الحالات الخطرة، الحياة أكبر من أنا وأنت، ماذا تعتقد أنت؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد