تجربتي في مستشفى الأمراض العقلية

لكن خارج المستشفى وجدت الكثير من جعفر وشيماء وخالد وحسن... جعفر ولا اعتبار للآخرين إلاّ في خدمته، شيماء ويوم الزفاف هو الحياة ولا وجود لك إلا بماهية دورك في زفافها، وخالد الفاضل الوحيد في البلد، أما حسن فيرتدي الحقيقة دائماً ولا يراها.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/16 الساعة 05:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/16 الساعة 05:07 بتوقيت غرينتش

كان جعفر أكثر شخصية شدّتني خلال إقامتي بالمستشفى، باعتباري مريضاً عقلياً بالتأكيد، ألا يحدث أن نجن أحياناً؟ أنا أجن بشكل مبالغ فيه أو بقوة، جعفر كان حالة مثيرة، يتمحور مرضه العقلي في اعتقاده الغريب.

كان جعفر يعتقد أن المستشفى قصره، ونحن جميعنا مجرد خدم بقصره -أطباء وممرضين ومرضى- وجودنا في المستشفى، من منظوره، ليس له مبرر سوى الخدمة، نحن هنا لخدمته والسهر على راحته، وانتهى العالم عند هذا الستيني المتقاعد.

شيماء، كانت مريضة عجيبة، فهي كل يوم تقوم بالتجمّل والتعطر وارتداء أبهى الفساتين، لم يكن ذلك بطريقة فعلية مباشرة، بل أقرب للأداء المسرحي دون أدوات، مثل تجربة أداء لدور معين.

هكذا تتجمل وتتعطر بالفراغ ثم ترتدي منه أجمل فستان، كل يوم عند شيماء هو يوم زفافها، ونحن جميعنا بالمستشفى ضيوف ومدعوون، لكني فهمت مع المدة أنها تعزل المرضى عن المشتغلين بالمستشفى: فالمرضى فقط هم المدعووّن، أما البقية سواء كانوا أطباء أو عمال تنظيف فأدوارهم موزعة بين الطبخ والتجهيز وخدمة المدعوين، الذين هم نحن.

هذا هو العالم عند شيماء، وهكذا كل يوم، أنت في العالم شاهد على يوم زفافها، وهذا هو دورك ومعنى حياتك بالنسبة لها، لم تكن تخفي مقتها وانزعاجها من حضور المدعوات، المرضى من النساء، فهن غيورات بالنسبة لها، ويتمنين ألا تتم فرحتها.

ظل عريسها مجهولاً، أهو واحد منا أو سيحضر من مكان ما كأمير القصص، كان كبريائها يمنعها من التلميح.

خالد.. لدى خالد كلنا لصوص وخونة نسرق الوطن، لم أدرِ بالضبط كيف يرى المستشفى: كثكنة، أو كمخيم لاجئين أو حتى دولة، المهم أننا جميعاً لصوص سرقنا ثروة البلد، وشرّدْنا خالد وأمثاله، رغم أن لا أحد مثله بالمستشفى.. أقصد نوعية مرضه العقلي.

حسن.. حسن هذا كان يرى نفسه ابن تيمية، كفّر كلّ من بالمستشفى حتى النمل الذي يخرج من جدار يطل على حديقة المشفى، وكان يصلي كل دقيقة، ويحج كل شهرين في الممرات أو بغرفته، وكل أسبوع يصيح بأعلى صوته مقدّماً خطبة الجمعة حتى لو كان يوم خميس.

كان بالطبع الكثير من المرضى بأمراضهم الغريبة ممن تعتقد نفسها مرآة أو الساحرة في قصة سنوايت إلى الماسونيين والعملاء السريين الروسيين وفرسان الهيكل والأذكياء الذين يحللون خطط الـ"إف بي آي" بخصوص السيطرة على العالم، حتى إن ماركو بولو كان هناك!

لكن خارج المستشفى وجدت الكثير من جعفر وشيماء وخالد وحسن… جعفر ولا اعتبار للآخرين إلاّ في خدمته، شيماء ويوم الزفاف هو الحياة ولا وجود لك إلا بماهية دورك في زفافها، وخالد الفاضل الوحيد في البلد، أما حسن فيرتدي الحقيقة دائماً ولا يراها.

أما فيما يخصني أنا، فإن قول محمود درويش: "أنا من أولئك، ممن يموتون حين يُحبّون"، فأنا من أولئك ممن يُجنّون حين يُحبّون.. أملأ جدران البيت بكتابة الشِّعر، لا أتوقف عن ترديد الأغاني، وأملأ حيطان الشوارع برسومات فراشات تلعب الكرة ومراكب صغيرة تتنزّه وسنابل تأكل الفستق، أنام بالطرقات منتظراً أن توقظني الحبيبة، وأفرّق السكاكر على الدجاج وصغاره.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد