يتعطش اليوم في عالم التشابك الفكري والثقافي كثيرٌ من الكُتاب والمدوّنين والأدباء، وأشباه الأدباء والصحفيين، ومن يدخلون الصحافة متخفين جائعين لشهرة أو ربما ما زالوا يبحثون عن ذواتهم ويحاولون إيجاد أنفسهم بخوض التجربة المتوافرة لهم، وذلك بالحصول على تذكرة المشاركة في المنافسة الكتابية على جميع الأصعدة، وبما أن السُّبل أصبحت واسعة، والساحة شاسعة وقابلة في ذات الوقت لاحتواء الجميع دون استثناء، حينها انبثقت الفرصة لنشهد كل صباح ولادة عنصرٍ ينشر كتاباته من رحم الصدفة.
البحث عن الذات :
إذا كان هذا الإنسان ما زال يبحث عن ذاته، ويسعى لتسويقها، هل سيجدها بين كلمات يجدر به كتابتها لأشخاص مختلفين في الثقافات والتطلعات، أو ربما لأشخاص هم أساساً بحاجة لمن يرشدهم ويضع لهم الأفكار في موقعها المناسب والزاوية الموازية لأهدافهم التي تشبه واقعهم، وتناسب مجتمعاتهم، عندها نؤمن بأهمية الكلمة التي تمثل رسالة وأمانة ثقيلة تناقش قضايا مهمة من شأنها بناء الأمم أو انهيارها.
قالوا : "الصدفة خيرٌ من ألف ميعاد"، لكن يا ترى هل هذا العالم الكبير الذي يجذب إليه الهواة يمثل الصلاحية مع إمكانياتهم؟ هل سيليق بشخصياتهم المجتمعية ويرضي طموحاتهم؟
الرؤية الكتابية :
عندما تخرج بنص هزيل من إنتاجك، ومادته الأولية نابعة من أفكار وموضوعات مرَّ عليها الزمن، في محاولة منك لإثبات حضورك وإبداعك لإرضاء نفسك فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار حساسية الموقف والمستويات الثقافية المتفاوتة، هنا سيكون الأمر حساساً يستدعي المراجعة، علماً أنك ربما تنشر مفاهيم وقيماً قد تؤثر في عقول الناس وسلوكياتهم، فيأخذونها على محمل الجد.
في الجانب الآخر إذا ما كانت كلماتك مفتاحاً لحل مشكلاتهم، فهذه المسؤولية هي في غاية الأهمية وتتطلب مراعاة مرنة لعوامل العقل البشري في البيئة الخاصة به، إضافةً لذلك الاهتمام بالعادات والأفكار السائدة والتعامل معها بحكمة.. عندها تكون أنت صاحب القلم الذي يوصل صوت وتوجه المجتمع من منظوره الذي يمثل طريق الخلاص بالنسبة لهم.
حقوق القراء :
يجدر بالكتاب الصاعدين التفكير بحقوق القراء بلا تقليد أو تكرار يميّع من قيمة الكتابة، وإن لم يتبع مبدأ التجديد سيذوب كالجليد في مواسم أدبية وثقافية محتدمة.
هذا من الضروري التفكير خارج السرب، ربما سيأخذ الكاتب اتجاهاً مختلفاً يكون له ضريبة قاسية تؤدي إلى أكثر الأماكن خطورة، والأهم أن يعبر عن قناعاته عندما يشعر أن قلمه هو العدل والحق والإنصاف، فيفصح دون الشعور بالخوف مع الحنكة في الطرح، إضافة إلى التزام مبدأ احترام العقول بمخاطبتها بعروض كتابية مرموقة غير ساخرة أو مثيرة للأخلاق العامة.
إذا حللنا نسبة الكُتاب إلى القراء سنصطدم بالحقيقة التي تشير إلى حجم القراء الذين يشكلون فئة قليلة مقارنة مع ما يتم طرحه من إنتاجات أدبية وصحفية تكاد تختنق المكتبات والأرصفة ومواقع التواصل الاجتماعي والجرائد بكمياتها، والحاجة تؤكد أهمية تبنّي الكُتاب الذكاء في اختياراتهم، واتباع الطرق الابتكارية أثناء عملية البحث عن ذواتهم مع محاولة لتقديم ما هو أفضل للكاريزما المستقبلية التي ستعالج أزمات المجتمع.
المنافسة الواقعية :
ما يجب أن نفهمه جميعاً هو من المستحيل أن تستوعب الساحة الفكرية والأدبية هذا الكمّ الهائل من الأقلام التي تكتب لأجل الكتابة فقط، لا لنشر أفكار جديدة مستدامة تؤثر بتشكيل العقليات، وتسهم بخلق بيئة علمية وثقافية متجددة؛ لذلك المشكلة لا تكمن في ظهور طاقات جديدة بل بتأثير هذه الطاقات وتطورها وتواضعها مع الأجيال الحاضرة والمستقبلية.
لا تعتقد أن هؤلاء الذين يلهثون خلف الكتب جميعهم من القرّاء.. لو كنا نقرأ لما اتجه الكثير للكتابة، واكتفى البعض بتقمص دور "السفسطائي"، لو كنا نقرأ لرفضنا فلاناً من الناس واحترمنا ما يكتبهُ فلان، وأخذنا بعين الاعتبار الحلول والحكمة التي يتشارك بها عشرات الكُتاب، ولم يتأثر بها حتى الآن إلا واحد فقط ممن يقرأون لهم، ما يدل على اشتعال الحرية بفتيل العولمة الفكرية والثقافية التي لا تنتظر أحداً؛ بل تحاول تسريع الزمن وبعثرة الأهداف العقلية، وهذا يستدعي تقديم منتجات فكرية مبدعة بشكل متسارع وأنيق من حيث المضمون والتأثير.
مصداقية الكلمة :
يجب أن تكون الحقائق واضحة صريحة؛ لأنها ربما ستصبح ذات يوم مرجعاً للأجيال القادمة، فمن الدهاء أن تكون قارئاً محترفاً لديه ذائقة ونظرة عميقة لما يقرأ ويسمع، ويحمل ثقافة واسعة؛ ليتسنى له دخول معترك اللعبة الكتابية والنشر، فالكاتب غير القادر على إبداء رأي صريح وحقيقي عن الواقع الذي يعيش فيه سيضع بأسوأ الأحوال وصمة عار على كيانه؛ لأنه تنازل عن وظيفته الإصلاحية.
عندما تكتب لا تفكر أي قارئ سوف تجذب، ومن سيصفق لك، بل فكر فقط أن كلماتكَ هذهِ هي صوت الصامتين من الناس الحائرين والخائفين، وهي منبر من ينتظر علامات الطريق المستقيم ليمضي نحوه بثقة قيادتك.
الرسالة الأخيرة :
خُذ توجهاً يليق بك تستطيع من خلاله أن تكون عنصراً ذا أهمية لما ينتجه، فالكلمات العمياء لن تخلق إلا أفكاراً جاهلة تترسب وتعشعش في عقول الأجيال القادمة دونما جدوى.
كلماتنا هي مسؤولية مهما اختلفت اختصاصاتنا؛ لذا نحتاج أن نقرأ أكثر ونفهم ونفسر، فنحلل ونقيم، ثم ننشر ونواجه العالم بفكرنا، وعلينا أن نؤمن بأن حجم الإنتاج الفكري الحالي لن يغير شيئاً في الغد إن لم يؤثر في الحاضرين اليوم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.