هالة عظيمة من الضوء والخشوع والأسى تزاحمك وأنت تطالع بعينيك سيرة الحسين، رضي الله عنه، هالة محاطة بأطر الدم واللوعة والحزن، والسواد يعم أرجاء المكان، ويحاصر أنفاسك كأنك في مكان يقل فيه الأكسجين وتتزايد فيه الدموع، فمنذ معرفتك بالحياة كعراقي مرت عليك ذكريات الحسين وأخبار الواقعة الفاجعة، فكيف يقتل من جده رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! ومن يتطاول على هذا المكان السامي؟! ومن أباح له الدم وأي دم؟!
دم السبط وقرة العين، فهو رمز السلام إلا أنه خضب بالدم ودليل الكبرياء، لكنه لم يعصم من الذبح وطالته أيادي الإثم.
رايات الحرب مرفوعة، والصدور تتصاعد فيها الزفرات، واقتتال ذوي القربى وذوي الدم والدين فاجعة الفواجع.
الأتربة والحر يحاصران المعسكرين، ولسعات الشمس لا تميز بين صحابي وآخر، وبين تابعي وآخر، وليس لها ميلان على طرف دون الآخر، فالكل في الحر والحرب سواء.
والسيوف لا تعرف من تحز من الرقاب، بل إنَّ حامليها كل يدعي أنَّ له الفضل وله قصب السبق في خدمة دين الله وفضل اتباع رسوله.
ملحمة ليست كغيرها، ومصيبة تعم القاتل والمقتول وبعدها سيكون ما يكون، ولن يعود العالم بأسره كما كان، فهي الفاصلة الفارقة، وهي الفاجعة المفجعة.
ودارت المعركة، وحمي الوطيس، وهنا كان الحسين مضرجاً بالدماء، عاري الظهر تكسوه الدماء، وكأنه سيف فارق الغمد.
وهنا كان الحسين تكسوه الأنوار والرفعة، وتكسوه المهابة أثواباً، يحاصره الظمأ بلا قبر فكيف لمثله أن يقبر؟! وكيف بابن علي -عليه السلام- أن يحتويه قبر؟! وأن تكون له نهاية مثل غيره، وهو سيد شباب أهل الجنة، هو النور الذي يسعى له الجميع، ويصطلون به من حوادث الدهر وملماته، ومنه تفوح عطور النبوة، فكيف لها أن تحجب؟!
شتان بين الثرى والثريا، وشتان بين الأديم والسماء، إلا أن المسافة اختصرت بالسيف، وعوضت هذا البعد كله بالقتل والدم القاني، وسنابك الخيل.
الجثث المضرجة بالدماء في كل جانب، واللوعة تنتاب الرابح قبل الخاسر في أبجديات الحرب والثكلى في نواح مستمر، ومشاهد حرق الخيم في كل مكان، وأصوات الأطفال تتعالى على أصوات النائحات، ومشاهد الانكسار على المعسكرين بادية، وعلى وجنات السيوف، ما زال الدم حاراً قانياً، والخيول متعبة كأنها لم تدخل حرباً من قبل، فثقل هذه الحرب عليها ليس أقل ممن يمتطون صهواتها، فالسمة العامة خوف وتعب وحزن وفواجع في كل مكان، وليس هناك رابح أبداً، فالرابحون ليس لهم مكان هنا، ونشوة النصر انزاحت عن المكان، وحلت فيه الندامة، مثلما حل الدم مكان السلم بين الأهل والأحبة.
وهي المأساة التي أدمت قلب الإنسانية، وأقرحت جفونها، تألّماً وتأثّراً بين الإنصاف والانحياز، التي وقع بها الكثير، فقد وظفت هذه الفاجعة سياسياً أكثر من غيرها، وحيكت حولها القصص والروايات السياسية بشكل لافت دون غيرها، عاشوراء لم تكن حادثة عابرة في التاريخ الإسلامي، بل كانت مفصلاً ومنعطفاً خطيراً أسّس فيه لعصر الفتن، وما زال أثرها يمتد إلى يومنا هذا، إذ خلّفت بعد موت الحسين شرخاً بين المسلمين.
ومع أن الجميع يندّد بهذه الفاجعة، ويجمع على مظلومية الحسين وأهل بيته، إلّا أنه كان لا بدّ من نشوب نزاعات ونشوء مذاهب بسبب هذا الشرخ، وما خلّفه من كراهية وعداء عند البعض.
لقد تم تكريس حالة العزلة والانفراد بمصادرة تاريخ المأساة الحسينية، وهي جزء من حالة الصراع التي امتدت على طول فترة الحكم الإسلامي، وهو إرث شامل يهم العرب والمسلمين جميعاً، ولا يختص بطائفة معينة، مما أثار ويثير الكثير من التساؤلات حول الغايات السياسية من هذا التقزيم لمساحة الإرث الحسيني.
لا يمكن اختزال ثورة الحُسَين الإصلاحية بلحظاتها السابقة مثلما لا يمكن اختزال أعدائه بأولئك الأشخاص الذين وردت سيرهم في كتب التاريخ؛ لأنهم موجودون في كل عصر وفي كل موضع.
فعاشوراء لم تنتهِ في عصر العاشر من محرمٍ الحرام سنة 61 للهجرة، بل من هناك ابتدأت، فـمبادئه لم تقتل لحظة استشهاده، مثلما أن أعداءه لم ينتصروا حين قطعوا رأسه الشريف، وأنَّ نداءه لا يزال موجهاً لجميع أبناء الإنسانية الذين يستشعرون العزة، وهي من خصال المؤمنين: "وَلله العِزَّةُ ولِرَسولِهِ وَلِلمؤمِنين".
إن الشعار الثوري الهادر يجد مصداقيته حصراً في التمسك بثورة الحُسَين ونهجها الإصلاحي في مقارعة الظالمين ومحاربة الفاسدين، وإلا فإنَّ عجلة التاريخ لا تدور نحو الوراء، مثلما أنَّ التمني بالفوز العظيم تجده في الآخرة لا في الدنيا، فمن أراد الفوز العظيم مع ثورته الإصلاحية في هذه الدنيا يقيناً سيكون معه في الدار الآخرة.
كما أن قيم عاشوراء المستمدة من جوهر الدين الإسلامي تدعو المسلمين إلى الوقوف صفاً واحداً متماسكاً، لدرء المخاطر التي قد تستهدفهم، وخاصة بؤر التطرف التي تسعى وتنشط هنا وهناك، لكي تستهدف المسلمين وتسعى لنشر التطرف والأزمات في عموم العالم، لأنها لا تعيش ولا تنمو إلا في الأجواء المتطرفة، الموضوع ليس رفض وقبول لجزئيات هي محل اختيار الناس، إنما الموضوع في تحويل طرح ثورة عاشوراء من طرح عالمي متكامل إلى طرح شعائري فقط، وهذا لا يعني انتقاصاً بالشعائر، ولكن هو اعتراض على اقتصار الطرح فقط على الشعائر.
ومع عظم هذه المصيبة وأثرها العميق في نفس كل مسلم، إلا أنه لا ينبغي أن تكون هذه المصيبة عامل هدم لوحدة المسلمين بعد مرور هذه السنين الطويلة عليها، ولا يجب أن يُحمّل أحدٌ من المسلمين وزرها وعارها بعد أن مضى الحسين وقاتلوه إلى رب لا يُظلم عنده أحد، فما قُتِل الحسين إلا في دفع الظلم عن أمة الإسلام، وطلباً للإصلاح في أمة جده كما تذكر عنه كتب التاريخ رضي الله عنه، من هنا ينبغي تتبع القيم الإنسانية التي أعلنها الحسين على رؤوس الأشهاد، وليبدأ المسلمون بأنفسهم أولاً.
فأولى بمن يحب الحسين أن يستثمر ثورة الحسين قيماً لا سياسية، من يحب الحسين -عليه السلام- ينبغي أن يطاول تلك القمة السامقة في حبها للخير، ونصرة المظلوم أياً كان، فهو الذي ضحى بنفسه وأهل بيته نصرة للمظلوم، إن من يحب الحسين لا يكون ظالماً أبداً ولا سفاكاً للدماء لو استلهم المسلمون ثورة الحسين حقاً لعاشوا سعداء أبد الدهر، ولقضوا على كل من تاجر بدم ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.