أخطاء منهجية يقع فيها القراء”1″| هل المكتوب مبيَّن من عنوانه؟

"المكتوب مبيِّن من عنوانه" مثلٌ شامي يفهمه معظم الناطقين بالعربية، بل أراهنُ أن لهذا المثل ما يُقابله في الأقطار الأخرى، وغالباً ما يُستخدمُ في البتِّ في أمرٍ من خلال الاطلاع على مقدماتِه دون فهمِ جوهره، وقد استخدمتُه هنا على عادتي في انتقاءِ عناوينَ مميزةٍ، ولأنَّ العنوانَ يتوافقُ من حيثُ المبنى والمعنى مع فحوى هذه المقالة.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/09 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/09 الساعة 03:36 بتوقيت غرينتش

لا بدَّ لحلِ أي مشكلةٍ من دراسةٍ معمقةٍ للأسباب والمظاهرِ، وما قد يكتنفُ وجودَ المشكلةِ من أمورٍ غير منطقيةٍ تترافق معها.

من المظاهرِ التي شَهِدها عالمُنا العربي -إن صح التعبير- أو بالأحرى العالم الرقمي الافتراضي المكتوبُ باللغةِ العربيةِ، تنامي وتكاثرُ مواقعِ التدوين.

أفسحت هذه الفضاءاتُ مجالاً واسعاً للكتَّاب الجُدُدِ ليبرزوا أنفسهم، بعد أن كانت فرصُ النشرِ بالنسبةِ لهم أقربَ إلى الحلم، فتحَت مواقعُ التدوينِ واسعَ الآفاقِ أمامَ عمومِ الناس؛ لكي يُبدعوا فتُقرأً إبداعاتهم بعد أن كانت حبيسةَ أذهانِهم أو على صفحاتِهم الشخصيةِ على الفيسبوك وغيره.

صفحةٌ لا يزورها إلا لفيفٌ من الأهلِ والأصدقاءِ؛ لكي يضعوا إعجاباً على آيةٍ قرآنيةٍ أو حديثٍ نبوي -دون الالتفات إلى مدى صحته- والقليلُ منهم سيقوى على قراءةِ منشورٍ ذي فائدةٍ علميةٍ أو ثقافيةٍ، والقليلُ القليلُ منهم سيتم قراءةَ منشورٍ كذاك بعد أن جَسرَ على البدء بقراءته.

وكما فتحت مواقع التدوين ذراعيها للكتَّاب، فقد فعلت الأمر ذاته مع القراء، وكما استقبلت لِنَقُل مئات؛ بل آلاف الكتاب فقد عَرضت منتجات هؤلاء على ملايين القرَّاء.

يحدثُ أحياناً أنك تَبدأُ الكتابةَ في أمرٍ ما لكنكَ لسببٍ -لا تدريه غالباً- تنعطف إلى أمرٍ آخرَ، كنت قد بدأت هذه المقالةَ التي بين أيديكم لأمرٍ يخص مقالتي السابقة والأولى على هافينغتون بوست؛ لكني آثرتُ أن أحيد عن الهدف الذي كنت أرسُمُه في مخيلتي إلى هدفٍ أراهُ أكثر فائدةً ونبلاً، ولكي يكون فاتحة لسلسلةٍ من المقالاتِ عن الاستفادة القصوى من القراءة، وعن الأخطاء المنهجية التي يقع فيها معظم القراء، مستفيداً بالدرجة الأولى من تجربتي وأخطائي السابقة التي أحاول تلافيها مستقبلاً.

"المكتوب مبيِّن من عنوانه" مثلٌ شامي يفهمه معظم الناطقين بالعربية، بل أراهنُ أن لهذا المثل ما يُقابله في الأقطار الأخرى، وغالباً ما يُستخدمُ في البتِّ في أمرٍ من خلال الاطلاع على مقدماتِه دون فهمِ جوهره، وقد استخدمتُه هنا على عادتي في انتقاءِ عناوينَ مميزةٍ، ولأنَّ العنوانَ يتوافقُ من حيثُ المبنى والمعنى مع فحوى هذه المقالة.

عندما نُشِرت مقالتي الأولى على هافينغتون بوست تحتَ عنوانِ "أنهار الدم في بنغلاديش.. الأضحية وموسم الجنون السنوي" لم تُسعف فطنةُ الكثيرِ من رواد الموقع في فهم المرادِ من العنوان، ولم يُؤازرهم صبرُهم لفتحِ المقالِ وقراءتِه قبلَ إلقاءِ العشراتِ من التعليقاتِ، حملَ أكثرها ذوقاً السُبابَ والشتمَ وأقلُّها (التكفير).

نعم أي سادتي، هناك في عالمِنا المتحضر من المسلمينَ مَن يتجاسرُ على تكفيرِ كاتبٍ من قراءةِ أحد عناوين مقالاتِه، من العنوانِ فقط دون أن يُحَمل نفسهُ عناءَ قراءة المقالِ أصلاً.

والأمر ليسَ شخصياً كما قد يتوهم البعضُ، فقد عُرفَت هذه الحالةُ واشتُهِرت بين الكثيرينَ من القراءِ باللغة العربية.

ما الأسباب التي قد تدفع القارئ لعدم قراءة مقالٍ ما بعد أن قرأ عنوانَه؟

هناك أسباب كثيرة منها:
أنَّ العناوينَ رتيبةٌ ومملةٌ ولا تدفعُ القارئَ إلى قراءة المقال؛ لظنه أنَّ المادةَ مكررة.
بعض العناوينِ تكون مصاغةً بلغةٍ فخيمةٍ فيتوهمُ القارئُ أنَّ المقالَ عصي على فهمِه ويعلو سقفَ قدراتِه.

أن العنوانَ يَكتنفُه شيءٌ من الغموضِ، وهذا يعود أيضاً لأسباب كثيرة:
– لأنَّ الكاتبَ لم يُحسن اختيار العنوانِ المناسِب.
– لأن الكاتبَ تعمدَ استخدام عنوانٍ غامضٍ لكي يدفع القارئَ لسبرِ غور المقال، ومعرفة ماهيته، وهنا تجدر بنا الإشارة إلى أن الكاتب ليس ملزماً أن يكتب تحت عناوينَ صريحةٍ دائماً، على العكس فانتقاء عنوانٍ غامضٍ بشكلٍ ما قد يضفي لمسةً فنيةً بديعة، إن أُحسِنَ انتقاؤه.

واختيار العناوين فنٌ قائمٌ وهبةٌ لا يمتلكها الكثيرُ من الكتاب، وتتعدد طرقُ استحداث العناوين لمقالٍ ما؛ فمنهم من يميلُ إلى استخدامِ الأمثالِ الشعبيةِ كجزءٍ من العنوان (أو كله)، ومنهم من يستخدم اقتباساتٍ من القرآن أو الإنجيل أو غيره أو مقولاتٍ شهيرة لكتابٍ وشعراءَ وسياسيين.

بعض الكتاب يستعينون بعناوين لأفلام ومسرحيات وروايات شهيرة كعناوين لمقالاتهم، وأقول هنا، جازماً، إنَّ "ذهب مع الريح" عنوان الفيلم الأميركي الشهير الذي أنتج في أربعينات القرن الماضي قد استخدِم ملايين المرات وبلغاتٍ شتى.

أما قسمٌ آخر فقد يذهب إلى الاستعانة بفنون البديع والبلاغة من توريةٍ وجناسٍ وتشبيهٍ وغيره، وكل ما سبق هدفه لفتُ نظرِ القارئ ولتحريك نوازعِ الفضولِ لديه، ولا عزاءَ لمن يقرأُ فلا يَفهم أو لا يدفعه فضوله وحبه للمعرفة أن يَقرأَ فيفهم.

إذاً لا تكمنُ -برأيي- المشكلةُ في عنوان المقالِ أو كاتبه؛ بل تكمن في القارئ، أناملي تسطرُ هذه الكلمات بينما يتزلزلُ كياني لذكرى عشراتٍ بل مئاتٍ من القطوف اليانِعة التي اختطها أيدٍ مبدعة فزهدتُ فيها لقصورٍ في فهمي ولكسلٍ لم يَدفعني إلى المثابرةِ بعد أن أنهيتُ العنوان.

فليتذكر كل منا، أي سادتي، كم فرطنا بنفيس القراءات عندما ركنَّا إلى كسلِنا الممقوت ولم نتبع فضيلةَ الاستكشافِ والبحثِ لا لشيء إلا لأن عنوان المقال لم يُكتب على مقاس فهومنا، ربما كان مُملاً مرةً، صارخاً مرةً، أو عصياً على فهمنا تارةً أخرى، لكنا وقفنا عند أسوار المقال وفتحنا بوابته ولم تسعفنا شجاعتنا لدخوله.

إنه ذلك الوهن الذي يدب في عقلِ القارئ أحياناً فيُقعدُه عن استكمالِ مهمته، هو تماماً كذلك الحبيب الذي وصل الأعتاب فحال الجبن بينه وبين محبوبته وصده الكسل عن طلبها فظفر بها غيره.
فهل من مُدَّكِر؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد