تقصيرنا تجاه القطاع الخيري

يمثلُ الناتج المحلي من الأنشطةِ الخيرية والمنضوية تحت الأعمال التي لا تتولَّى الحكومات مسؤوليةً مباشرةً عليها رقماً مهماً في تنميةِ الدولِ المتقدمة، بل إن قطاعاتٍ كالتعليم والصحة مثلاً، تكادُ تعتمدُ بشكل شبه كامل على ذلك النوعِ من الاقتصادات الاجتماعية؛ ليزيدَ ذلك من جودةِ عمل القطاعَين الحكومي والخاصِ، أو يعوضَ من قصورِهما أو تشوُّههما.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/08 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/08 الساعة 04:07 بتوقيت غرينتش

التطورات التي تشهدها اقتصادات المنطقة، وخصوصاً في دول الخليج التي اشتهرت بالثراء وتصدير الطاقة مقابل أثمانٍ باهظة، تدفعُ بقوةٍ نحو تغييرِ الأشكال التقليديةِ لاقتصاداتها، وخصوصاً في اتجاه دعمِ القطاعِ الثالث (الخيري)، وجعلِه في صُلب النشاط المالي لاقتصاد البلاد، الذي يعودُ بالنفعِ على المجتمعات وعلى الفئاتِ الأكثر احتياجاً من الشبابِ المقبلِ على سوق العمل، والطلابِ، وذوي الدخل المحدود.

والحقيقةُ أنَّ التصور التقليدي عن العملِ الخيري (القطاع الثالث) في هذهِ الحالة، تسبَّب في قصورِ فهم هذا المجال، الذي يحصرُه البعضُ في الصدقةِ التي يقومُ مقتدرٌ بتقديمها لمحتاج ابتغاء لوجهِ الله، عز وجل، وعلى الرغمِ من أنها تقعُ ضمن ذلك، فإنها أوسعُ مفهوماً وأعقدُ تركيباً وأكثر نتاجاً بالنظر إلى الدور الذي باتت تقومُ به اليوم.

يمثلُ الناتج المحلي من الأنشطةِ الخيرية والمنضوية تحت الأعمال التي لا تتولَّى الحكومات مسؤوليةً مباشرةً عليها رقماً مهماً في تنميةِ الدولِ المتقدمة، بل إن قطاعاتٍ كالتعليم والصحة مثلاً، تكادُ تعتمدُ بشكل شبه كامل على ذلك النوعِ من الاقتصادات الاجتماعية؛ ليزيدَ ذلك من جودةِ عمل القطاعَين الحكومي والخاصِ، أو يعوضَ من قصورِهما أو تشوُّههما.

وقد لعبت العولمةُ الاقتصادية في انضواءِ الكثير من المؤسساتِ غير الربحية ومنظمات المجتمعِ المدني تحت لجنةِ المنظمات غير الحكومية في الأمم المتحدة، وبالتالي زيادةُ نشاطِها وتكاملها في أداء دورها على المستويين الداخلي والخارجي.

ففي كل من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، تلتزم ملايينُ المؤسسات من هذا النوعِ في أداء دورها في تطوير حياةٍ أفضل للناس بنشاطات متعلقة بالتعليم والصحة والبيئة وحقوقِ الإنسان.

وفي بلداننا، يُنظر إلى القطاع الثالث (الخيري) بعينِ الريبة من حيث دعمه وآلية عمله والنتائج المتوقعة منه، وذلك على الرَغم من الكثيرِ من الإنجازات التعليميةِ والتوعوية والثقافيةِ والتنموية التي يقوم بها، فالعاملونَ في هذا القطاع، كما يقولُ طارق السلمان، المختص بإدارة وتطويرِ المشاريع للمنظمات غير الربحية: "متَّهمون حتى تثبت إدانتهم"، تتخطفُهم ألسنة الإعلاميين وأقلام الصحفيين وتتبعُ زلّاتهم أملاً في "الضربات الصحفية"، وصعوداً على ظهرِ مَن لا ظهر له، وجهلاً بدورهم في خدمةِ المجتمع، وتوفيرِ فرص عملٍ لعدد كبير من الشبان والصبايا الناشطين في هذا المجال.

ولعل فكرةَ "الاحتساب"، التي دأبَ العاملونَ في القطاع الخيري على تبنيها والإيمانِ بها، كانت سبباً في شيءٍ من هذا التجاسر من قِبل المناوئين للقطاع؛ إذ يظنُّ الكثير من "المحتسبين" التقليديين في هذا القطاع أنَّ عمل الآخرين ضدهم جزءٌ أصيلٌ من عملهم النبيل الذي يواجههم فيه "الأشرار"، وهذا ما يجعلهم مقتنعين بسورٍ منخفضٍ غير كفُؤ لحمايتهم.

ولذا فإن من الضروري ضمنَ دخول الحِرَفية والاحترافيةِ في هذا المجال النامي أن يعمل فيه كلُّ مَن له فكرٌ إبداعي وابتكاري، وهمّة عالية تعزّز من دورِ هذا النشاط في المستقبل، وتدفعُ عنه كل شبهةٍ أو اتهام.

والحقيقةُ فإنَّ المسؤولية حيال هذا الوضع لا تتجه -في رأيي- إلى الحكوماتِ بدرجة كبيرة، فقطاعٌ ثالثٌ قوي ومنجز وقادرٌ على العمل في مُختلف الظروف يعني حكوماتٍ أقل تسلُّطاً على الاقتصاد؛ لذا فإنَّ الأولى بالمسؤولية اليوم عن تنميةِ هذا القطاع وإزالة الغمّة عنه هو "الإعلام" بشقَّيه التقليدي والجديد، الذي يجبُ أن تُفتح منصّاته أمام الناشطين في هذا المجال.

وفي المقابل، يجبُ على المؤسساتِ المانحة والجمعيات الخيرية أن تهتم بالصورةِ الذهنية التي يتبناها المجتمعُ، والإعلام على وجهِ الخصوص، حولها وحولَ نشاطها والعاملين لديها، فلا تتركُ للشكوك والأوهامِ أن تأخذ مجراها دون توضيحٍ أو تعقيب، ودون إدارة مباشرة للأزمات ودحضٍ وتصدٍّ للشبهات؛ إذ مِن المتوقّع أن يزداد دور القطاعات الخيريةِ في منطقة الخليج مع العملِ الحالي في المناطق الأغنى، وتحديداً مع الخططِ التنموية التي تحملها رؤى السعودية وقطر وأبوظبي ودبي، وكذلك الانتعاش الذي يعيشه هذا المجال في الكويت منذ سنوات، والحاجة الماسَّة إليه في يَمنِ ما بعد الحرب.

وأخيراً وفي ظل الأزماتِ الاقتصادية الحالية التي نجمت عن الانخفاض الحادِ في أسعار النفط، وعدم الاستعدادِ لذلك بالتصنيع وتنويعِ مصادر الدخل، فإنَّ حاجةَ مجتمعاتنا إلى القطاعِ الثالث باتت أكثر إلحاحاً لتقديمِ خدماتٍ أكثر كفاءة، وتوفير فرصِ عمل لمن لا يستوعبُهم القطاعان الخاص والعام، وهذا ما يجعلُ من تصيُّد أخطاءِ القطاع الثالث وتكبيرها، بالمقارنةِ مع ما يرتكبه القطاعان الخاص والعام، سبباً في تزهيدِ المانحين في دعمِه والمتطوعينَ في المشاركة؛ لتتفاقمَ بذلك المشكلاتُ، ويزدادَ عجزُ الاقتصاد عن تلبيةِ حاجاتِ الناس.

سأتناولُ في مقالٍ قادم -إن شاء الله- تجربةً بريطانية جديرةً بالدراسة في دعمِ الصورة الذهنية حولَ القطاع الخيري، وتعزيز دوره، وإمكانية تكرارِ ذلك لدينا.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد