عودة مدرسية صامتة

لقد عجز تلاميذي عن وصف أحلامهم وطموحاتهم، وعن توصيف مخاوفهم، أو حتى الإشارة إلى أكثر شيء يحبونه أو يكرهونه بشكل سليم، وحين نطقوا كان المشهد أجوف، يفتقر إلى أساسيات التعبير التي وجب امتلاكها عند كل طفل في سنّهم على الأقل.

عربي بوست
تم النشر: 2016/10/08 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/10/08 الساعة 03:02 بتوقيت غرينتش

عادة ما أحاول التعرّف على تلاميذي في بداية العام الدراسي بطريقة تختلف عن عمودية وبدائية نصف الورقة التي يذكر فيها التلميذ اسمه واسمَي والدَيه ومهنتَيهما، فتجد منهم من يتفاخر ليكتب هذه المعلومات بسلاسة، بينما يقوم البقية بخطّ مِهن أوليائهم بتحفظ.

قررت هذه السنة أن أطلب منهم شيئاً مختلفاً، وهو أن يقوم كل منهم بكتابة أي شيء عنه، لم يكن ما طلبته واضحاً لهم، فحاولت التوضيح أكثر، وأخبرتهم أن باستطاعتهم الكتابة عن أكثر شيء يحبونه، أو يكرهونه، عن طموحاتهم، وأحلامهم، أو حتى عن مخاوفهم.

جلست أراقب التلاميذ من مكتبي، وحاولت أن أحيد عنهم ببصري؛ كي لا يشعروا بالإحراج، وأضفتُ لاحقاً أن بإمكانهم عدم كتابة أسمائهم، وأن مَن أراد كتابة اسمه فإني أعدِه أن لا أحد سيعرف محتوى الورقة سواي.

كنت أسترق النظر بين الحين والآخر لأرى تقدمهم، وأستعدّ لجمع القصاصات، ولكن كنت أرى الحيرة على وجوههم وعجزهم عن الكتابة، فأخبرني البعض أنهم لم يجدوا شيئاً ليَكتبوه، وكان أصعب سؤال في نظرهم هو: "ما هو طموحك في المستقبل؟".

مما لاحظته أيضاً بعد قراءتي لما استنطقته منهم كان انقسام الذكور والإناث إلى أن أحلام الأولاد تمحورت جلُّها حول ألعاب الفيديو وكرة القدم، بينما فضَّلت الفتيات قول إنهن يحببن الدراسة، كان هنالك إجابات أخرى، ولكن أغلبها تلخص في ما كتبته، إضافة إلى الجملة التي تكررت بشكل واضح، وفي أكثر من قسم، ألا وهي "أخاف من الأستاذ"، لعلها الجملة الوحيدة التي عبَّر بها الأطفال عن شيء من داخلهم، ولكنني خفتُ كثيراً من أن يكون هذا الخوف هو العامل الأساسي وراء عدم قدرتهم على التعبير عن أنفسهم، رغم أنني حاولت قصار جهدي توفير الظرف المريح والسليم لهم، كي يكتبوا بكل أريحية.

حاولت أن أبحث مع نفسي عن العوامل التي قد تؤثر على قدرة الطفل على التعبير عن نفسه أمام الجميع، أو حتى على ورقة سيتنصَّل من مسؤوليته تجاهها بعدم كتابة اسمه، وتوصلت إلى أنني وكأستاذة التقت هذا الطفل لأول مرة في حياته، واستقبلته بابتسامة، لم أكن السبب في عجزه عن التحدث عن ذاته، لعل الصورة النمطية التي يحفظها الأطفال عن الأستاذ أسهمت ولو قليلاً في ترددهم في الكلام بكل حرية، ولكن لهذه النتيجة الكثير من الأسباب التي تتعدى أسوار المدرسة والمعهد والقسم والمعلم.

إن تربية الأطفال فنّ لم يُخصص له مكان ليُدارسه الأهل رغم جماليته وأهميته، وليُبدع الفنان فهو بحاجة إلى صقل الموهبة الفطرية في حب أبنائه، وتزويدها بما يحتاجه لإنجاح مشروعه الأسري.

نفتقر في مجتمعاتنا إلى ثقافة الإنصات، نعم الإنصات وليس السماع، فأنا بإمكاني أن أسمعك مطبٍّقة المثل القائل "أذن من طين وأخرى من عجين"، فالسماع هو الاستخدام الفيسيولوجي للأذن حين تقوم بالتقاط الأصوات المحيطة بك، أما الإنصات فيتطلب التركيز والانتباه، وهو ما يُشعر المتكلم بأهمية ما يقوله، فينعكس هذا على نفسيته، وبالتالي يقوم ذاتياً بتطوير مهارته الكلامية مرة بعد أخرى.

نحن نفتقر بالتالي في أغلب البيوت الشرقية إلى ثقافة الحوار وإرساء أطرافه بشكل يضمن للجميع حق التعبير عن رأيه، فمن الضروري أن يعتاد المرء على إبداء مواقفه وآرائه في بيته حتى يقدر على فعل ذات الشيء خارج أسواره.

وهنا يتمثل دور الأهل في إتقان فن الحوار بشكل ديمقراطي وتربية أطفالهم على الكيفية السليمة للتعبير عن الذات، ومن ثَمّ ضرورته، فالبيت هو الصورة المصغرة للمجتمع ككل، وإن نجح الفرد في بيته فسيتمكّن من النجاح خارجه؛ لذلك فمن المهم جداً الإصغاء للطفل منذ بداية المراحل الأولى لاكتسابه للغته، والتي يبدأ فيها الطفل بالتساوي باكتساب الشعور بالذات، وهنا يكمن دور الوالدين في دعم الطفل نفسياً بخلق البيئة السليمة له لتطوير مهاراته، بالإضافة إلى دعم إحساسه بذاته من خلال الاستجابة لكينونته واعتباره فرداً فاعلاً.

وهذا ما ينعكس إيجابياً على نفسية الطفل الذي يصرّ الكثيرون على تقليل دوره وتهميش آرائه دون الإصغاء لها، والاسترسال في قمع ذاته بالسباب والشتائم، ما يكسر شخصيته بشكل سيئ.

يولّد هذا الانكسار لدى الطفل الرغبة في العزلة، وهو ما يسهم في انسحابه التدريجي من المشهد العائلي، فيفقد كينونته داخل أسرته، فتنصهر "أناه"، في محاولة منه لتجنّب ردة الفعل القامعة التي قد يتلقاها حين يحتكّ برمز السُّلطة في الأسرة، هذا الفشل في الاندماج داخل العائلة يؤدي إلى الفشل في الاندماج في المجتمع، فيحيط بهذا الطفل الغموض الذي يقف حاجزاً بينه وبين فهم الآخر له، ممّا يؤدي إلى عجزه عن التعبير عن أفكاره، وحتى وصف أحلامه.

من الضروري أن يملك كل طفل خارطة واضحة لأحلامه وطموحاته، تختلط فيها براءة الطفولة بإبداعات الأبطال الخيالية، فتُصقل هذه الأحلام تدريجياً مع نمو الطفل من مرحلة عمرية إلى أخرى.

يكمن دور الوالدين هنا في تحفيز خيال الطفل بتزويده بالدعم اللازم لصقل مواهبه التي من خلالها سيتمكن من رسم الصورة الصحيحة لذاته؛ لينجح في تعريفها أو حتى اختصارها في كلمة واحدة، وهو ما فشل فيه كل تلاميذي حين طلبت منهم أن يحدثوني عن أنفسهم، وهذا يدل على أن هؤلاء الأطفال، ومثلهم كثر، يفتقرون إلى أساسيات الكينونة، ويتمادون بجهل مطبق في نكران ذاتهم حدَّ جهلهم بوجودهم ومن يكونون.

وهذا يذكرنا بنظرية سارتر في أن الوجود يسبق الماهية، وبالتالي فإن فقد الطفل وجوده أمام نفسه سيفقد ماهيته أمامها، فالإنسان يصير ما يشاء فقط حين يعي من هو وماذا يريد تحديداً، وإن فشل في معرفة ذاته فسيفشل لا محالة في أن يريد، ولأن ما يهم الأهل بالدرجة الأولى هو تحصيل أولادهم لمعدلات جيدة وحصد الجوائز، فيؤسفني أن أقول بأن كل هذه الممارسات الخاطئة التي يعاني منها جل الأطفال في بيوتهم تنعكس سلباً على قدراتهم ومهاراتهم التعليمية.

إن فقدان الطفل لمجال كافٍ للحوار يسير جنباً لجنب مع تجريده من أي مسؤولية، فتحميل الطفل لمسؤولية ما حسب قدراته يخلق لديه مهارة الاعتماد على النفس، وهو ما يحفز أكثر إحساسه بهذه النفس.

من الضروري إذاً تخصيص مساحة كافية للطفل كي يعتمد على نفسه، ومن الضروري أيضاً أن يتلقى هذه الثقة من والديه، فحين أمنحه ثقتي سيثق بنفسه، والعكس صحيح حين أسحب منه هذه الثقة، ولعلّ توفير ما يعرف بالتغذية الاسترجاعية الإيجابية يسهم بشكل كبير في تعزيز سلوك الإحساس بالذات والاعتماد عليها، فحين يقوم الطفل بإتمام مهمة ما بشكل جيد يجب تحفيز قدرته بالشكر المادي والمعنوي، لاحقاً سيقوم الطفل بتوسيع مسؤولياته لتشمل إخوته الأصغر، ومن ثم أفراد مجتمعه.

لقد عجز تلاميذي عن وصف أحلامهم وطموحاتهم، وعن توصيف مخاوفهم، أو حتى الإشارة إلى أكثر شيء يحبونه أو يكرهونه بشكل سليم، وحين نطقوا كان المشهد أجوف، يفتقر إلى أساسيات التعبير التي وجب امتلاكها عند كل طفل في سنّهم على الأقل.

وتجدر الإشارة هنا إلى عجز المناهج التعليمية في كل المواد عن توفير المساحة الكافية للطفل كي يعبر عن ذاته، ويتفادى ما تعرضّ له في مركز تدريبه الأول، ألا وهي الأسرة، بالإضافة إلى جفاف المحتوى التعليمي الذي يقتصر في الغالب على مدّ الطفل بالمهارات التي قد يحتاجها لاستخدام لغة ما مثلاً في السوق أو المدرسة أو محطة القطار دون إعارة الاهتمام لمحاور قد يكون لإدماجها في المنظومة التربوية الأهمية القصوى في وصول الطفل إلى التكوين السليم لشخصه وذاته، كالحب والطموحات والأماني والعطاء واحترام الآخر، مواضيع من شأنها أن تبني إنساناً قادراً على التقدم بنفسه وبمجتمعه داخل عالم يستحي أفراده من التعبير عن مشاعرهم لبعضهم البعض.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد