البحث عن السعادة في هذا العالم المُتخَمِ بالأوجاع والمتقطّعة أوصالُه بالتناقضات والمنفجرة أمعاؤه بالإجرام.. بدا أمراً بليداً، تقول لي: السعادة محطّة يستحيلُ الوصول إليها كلّما زاد إدراكنا لحقيقة الأمور وتفاصيلها المُعقّدة.
– ولكن، ألا تخشين أن تدفعك هذه القناعةُ إلى الغرق في اليأس والاستسلام للقُبحِ الذي أضحى العالمُ يرتديه؟ إذا لم يترك المرء في قلبه فُسحة حُلم وذرّة رجاء بأنّه بالغٌ السعادة فكيف حياتُهُ؟ هي قِطعٌ من العذاب إذن!
تقول لي بأنّ دمع الأرملة الثكلى العراقيّة لا تنقطِع حرارته عن فؤادها، وأنّ صوتها وهي تحكي قصّتها يصمّ أذنها عن أصوات الفرح المُبهرَجِ.. وتردفُ:
– ونحن نشربُ عصير الفواكه البارد على طاولتنا المريحة هذه أشعُر بجفافٍ تتشقّقُ لهُ حنجرتي وصورة أطفال بلاد إفريقيا السمراء تتداعى إلى مخيّلتي والعطشُ ما زال يقتُلهم.. فعن أي سعادة بربكِ تبحثين؟! يشتعِلُ غضبُها وهي تروي لي أحوال الكنانة وبلاد الشام وبلاد الرافدين وأرض اليمن وبلداناً نائية بالكادِ نسمع عنها وشعوباً تعاني في صمت قاتل. قُلتُ لها:
– وهل البكاء نصيبُنا الذي لا انفكاك منه؟ وهل حمل جرار الأحزان قسمتنا التي لا بُدَّ أن نرضى بها؟
مللتُ هذا الحُزنَ المُدقع الذي يُردينا إلى أعماق الضعفِ الهاوِيَةِ.. أنا أعرفُ كلّ القصص التي تحكين لكن نبضي ما زال يصبُو إلى السعادة.. انتظار السعادة حتّى تأتينا دُفعَة واحدة تغسل كلّ أتراحِنا وتُنسينا كلّ الخسارات لن يعطينا إلّا عجزاً وغرقاً في الأوهام والأماني المُزيّفةِ.. لماذا لا نبحثُ عن وقود الطريق في الأمور البسيطة؟ السعادة رُبّما سكنت تفاصيلنا الصغيرة رغم كلّ الشجون التي تُحِيط بنا.
الخسارة العُظمى ليس ما يُحيطُ بنا، إنّما خسارتنا يوم نرمِي أسلِحَتَنا ونتوشّح حداداً أبديّاً يسرق شغفنا ودهشتنا واندفاعنا لإنجاز أمورنا الصغيرة التي تملأنا بالمعنى وتشحننا بعزم يقول لنا إنّنا قادرون على التقدّم وعلى طي انكساراتنا ما دمنا لا نخذل أنفسنا.
السعادة ليست فرحاً مُضلّاً يُعمينا عن أحزاننا إنّما تصديقُ أنفسُنا بأنّها تستحقّ أن تكون نبراساً مُضيئاً والإيمانُ بأنّنا أتينا لنكون جسراً نحو الأحلام، فليسَ مُهمّا أن ندرك تحقّق الحلم إنّما الأهم هو العمل من أجله والتلذّذ بذلك رغم الأصوات المجروحة والقلوب الموجوعة وهل تكونُ رحلة دونَ تعبٍ؟!
– وما السعادة إلّا لونٌ من ألوان الرضا، فهل راضيةٌ أنت عن مصائبنا الصغيرة وهولِ ما نعيش؟
عن أي سعادة يُمكِن الحديثُ ونحنُ نتجرّعُ المرارة من خيانة القريب وبطش البعيد؟
– لكنّني لستُ قانطةً ولا أريدُ لليأس أن يأكُلَ قلبي فأقتُل لحظاتي.. أن نحمِلَ أحزانَ الآخرين وهمومهم حتّى تكبُرَ أنفسَنا وتنثُرَ ما استطاعت من جمال يُرمّمُ الأنفس المنكسرة فتعودَ لدورة الحياة تغزِلُ أحلاما للآتين وتمسحُ دمعهم قبل نزوله.. السعادة ألّا نُورّثَ الأمنا للخارجين من أصلابنا.. السعادة ألّا نزرع دروبهم عجزاً.. السعادة طريقُ المعنى وغوصٌ في المكنوناتِ وتثمينٌ للحظات وإيمانٌ بالسير.. السعادة دربٌ وليست هدفاً.. السعادة أبسَطُ من فلسفاتنا الواهية.