أثارت مقابلة قال الصحفي الألماني يورغن تودنهوفر أنه أجراها مع قيادي من تنظيم "جبهة النصرة" (فتح الشام الآن بعد إعلانه الانفصال عن تنظيم القاعدة مؤخراً) في منتصف شهر سبتمبر/أيلول 2016 الكثير من الجدل، بين مشكك بهوية القيادي وصدقيتها، ومتهم له بالدعاية لنظام الأسد، وسط دفاع مستميت من الصحفي عن مصداقيته.
وزعم الشخص الذي قدمه ودنهوفر على أنه قيادي يُدعى أبو العز في المقابلة الممتدة لقرابة 10 دقائق وجود صلات لجبهة النصرة بمجموعة من الدول العربية، وتلقيهم مبالغ بمئات الملايين من الدولارات، إلى جانب دعم الولايات المتحدة لهم بإعطائهم صواريخ مضادة للدروع، علماً أن واشنطن تصنف التنظيم على أنه إرهابي، وتواجد ضباط من دول كقطر والسعودية وإسرائيل معهم، إلا أن تحقيقات لصحف ألمانية أثبتت أن الحوار مفبرك، "وله أهداف مغايرة"، مثل الترويج لآراء نظام الأسد ومحاولة توريط دول بالمنطقة واتهامها بمساندة الجهاديين.
ولدى سؤاله لضيفه في المقابلة التي جاءت بعنوان "هل تدعم أميركا القاعدة؟"، والتي نشرها الصحفي على صفحته بموقع فيسبوك في الـ26 من شهر سبتمبر/أيلول 2016، عما إذا كانوا سيحاربون النظام السوري رغم دعم روسيا له، قال "إنهم سيحاربونه حتى يسقطوه، ويحاربون الغرب أيضاً لأنهم لا يدعمونهم، رغم إرساله المجاهدين لهم"، وعندما سُئل عن عدد هؤلاء في حلب رد أبو العز: "كثير.. كثير.. كثير".
وزعم أبو العز أنهم لا يعترفون بالهدنة التي كانت أعلنتها روسيا وأميركا، وإنما يستخدمونها لرص صفوفهم لأنهم منهارون، وإنهم لن يسمحوا بقافلة المساعدات التابعة للأمم المتحدة (التي قُصفت لاحقاً) بدخول شرق حلب، دون تنفيذ مطالبهم، متهماً فصائل المعارضة المسلحة بالارتزاق، نافياً في الوقت نفسه وجود معارضة معتدلة.
ووصف تودنهوفر المقابلة بالأصعب بين تلك التي أجراها في الحرب السورية، ومحاوره أبو العز بأنه "ليس قيادياً رفيع المستوى، يتحدث بوضوح ويسمي الأشياء بأسمائها، لافتاً إلى أنه "لم يتبق من حكايات السياسيين الغربيين الرومانسية حول القتال من أجل الحرية الكثير، على حد تعبيره".
وتناقلت مواقع محسوبة على روسيا كقناة روسيا اليوم، إلى جانب مواقع صحف محلية ألمانية خبر "الخبطة الصحفية" الجديدة لتودنهوفر عن دعم واشنطن للقاعدة بالسلاح.
صحفيون مختصون ونشطاء كذبوها
وخصصت النسخة الألمانية من موقع "فايس نيوز" الذي سبق وأن نشر مقابلات ووثائقيات عن الجهاديين مادة حللت فيها محتوى المقابلة المزعومة، وأكدت أن كل ما أدلى به الجهادي المزعوم "يتطابق تماماً مع البروبغاندا التي يكررها النظام السوري منذ أعوام عن محاربته لمرتزقة يتحكم بهم الغرب"، وهو ما دفع مراقبين إلى الشك في كونها مدبرة.
وعدد الموقع عدة نقاط محل شك في المقابلة، منها أن جبهة النصرة لم تعد موجودة عملياً بعد أن أعلنت في شهر يونيو/حزيران فك ارتباطها بالقاعدة وتسمية نفسها "جبهة فتح الشام"، "وعلى الرغم من تأكيد معظم الخبراء أنها لم تكن سوى خطوة تجميلية، إلا أن قيادياً في التنظيم كان سيحرص على ذكر الاسم الجديد لا تكرار الاسم القديم".
Important || German journalist? Jürgen Todenhöfer never conducted an interview with a JFS member nor did he enter the liberated areas.
— Abu Saeed Al-Halabi (@Saeed__Saeed01) 27 septembre 2016
كما نفى التنظيم للموقع وعضو فيه إجراء مقابلة مع قيادي فيه، أو دخول الصحفي إلى المناطق التي يسيطرون عليها.
وأشار الموقع إلى أن أبا العز لا يتصرف كجهادي أبداً، مستشهداً بعدة مقابلات أجراها صحافيون وصحافيو قناة الجزيرة مع قيادات التنظيم، وكيف أن هؤلاء "يفكرون جيداً قبل أن يجيبوا بهدوء، ويتحدثون بلغة عربية فصحى، كما أنهم يواظبون على ذكر الله خلال حديثهم بصيغ مختلفة، فيما لم يذكر أبو العز الله تقريباً في كل حديثه، الذي تكلم فيه بالعامية".
ونقل عن صحفي مستقل من مدينة حلب قوله إن اتباع النصرة لا يتكلمون هكذا بالعامية، موضحاً أن هذا الرجل يبدو غير متعلم، ولا يمكن أن يكون قيادياً.
خاتم ذهبي
وأشار "فايس نيوز" إلى أنه من المفاجىء ارتداء القيادي المزعوم خاتماً ذهبياً كبيراً، وهو الأمر غير المتداول بين الجهاديين، موضحاً أنه حتى ولو أن بعض السلفيين ظهروا وهم يلبسونه، كما جاء في صور لزعيم تنظيم القاعدة السابق أسامة بن لادن، فإنه "كان من المتوقع أن يتم تذكير أبي العز بضرورة خلعه قبل إجراء اللقاء".
ولفت إلى أن السؤال المطروح هو كيف لقيادي في النصرة أن يتحدث هكذا بوضوح عن دعم أمريكا وإسرائيل لهم، "إذ إن ذلك يعتبر بالنسبة للمجموعات الجهادية خيانة عظمى، وأنه حتى وإن كانوا يتلقون دعماً لن يظهروا أمام الكاميرا ويقروا بذلك"، مشيراً إلى أنه إن كان أبو العز قيادياً بالفعل في التنظيم "لكان كلفه ذلك رأسه".
وذكر بأنه تبين أن حديث تودنهوفر عن إجراء المقابلة في مكان لا يخضع لسلطة أحد بين الجبهات خاطئ، إذ نشر أحد المستخدمين على مجموعة تدعى "الحرب الأهلية السورية" بموقع "ريدت" تفاصيلاً تظهر أن الموقع يقع قرب نقطة تفتيش تابعة للنظام السوري في حريبل، علماً أنها لم تخرج عن سيطرة النظام منذ بدء الحرب.
ويظهر ذلك في مقدمة الفيديو أيضاً عندما يستقبل سيارة الصحفي، شاب حليق الذقن، يلبس زياً عسكرياً من الذي يرتديه الجيش النظامي.
وأجمع غالبية الكتاب والصحافيين المختصين بالكتابة عن الجماعات الجهادية على أن المقابلة مزيفة، فنشر السياسي في الحزب الديمقراطي الحر الألماني توبياس هوخ فيديو وصف فيه المقابلة بالمزيفة.
وقال الصحافي المختص بالكتابة عن تنظيم "داعش" حسن حسن على موقع تويتر إنها خدعة موضحاً أنه "يمكن حتى لمراقب هاو لهذه الجماعات القول فوراً.. إنها نكتة".
@joshua_landis absolutely a hoax. Even an amateur follower of these groups could immediately tell. It's a joke @ThomasPierret @YouTube
— Hassan Hassan (@hxhassan) 27 septembre 2016
وكتب الصحفي العامل مع شبكة "سي إن إن" مايل فايس أن الإطلاع على هذا الرابط يوضح حقيقة المقابلة، مرفقاً رابطاً يتحدث عن علاقة الصحفي القوية مع النظام السوري.
This might help explain that bizarre Todenhofer interview with a regime actor posing as a 'Nusra commander': https://t.co/cgHb0kMDYM
— Michael Weiss (@michaeldweiss) 27 septembre 2016
وتساءل بوزو داراغاهي فيما إذا كان "الصحفي غريب الأطوار قد خُدع من قبل النظام السوري، ليقوم بالدعاية للأسد وحلفائه من الأكاديميين الغربيين؟"، مضيفاً في تغريدة أخرى:
Wow: Did eccentric German journalist get duped by Syria regime, feeding propaganda to Assad & his Western academic allies? https://t.co/cvfAIToPAw
— Borzou Daragahi (@borzou) 27 septembre 2016
وعبرت مواقع ألمانية وأوربية أخرى عن شكوكها في المقابلة أيضاً، فكتب صحفي في موقع "نويه زيورخه تسايتونغ" السويسرية مقالة عن المقابلة تناولت الشكوك المطروحة بشأنها تحت عنوان: "ممثل للنظام؟".
ونشر ناشطون ليلة الخميس صوراً قالوا إنها تظهر من هو القيادي المزعوم أبو العز، موضحين أنه قائد ميليشيا تابعة للنظام السوري، ويدعى أحمد الشيخ، وهو من سكان قرية حريبل في ريف حلب الشمالي.
كيف رد تودنهوفر؟
وفي رد على المشككين بمقابلته، قال تودنهوفر في منشور عبر صفتحه الرسمية على فيسبوك "إن انتقادات بعض الجهلة مؤلمة".
وأضاف أنه "كان يعرف منذ البداية أن النصرة ستنكر المقابلة مع قيادي غير رفيع المستوى حول أهدافهم الحقيقية، لأنها ستكون غير مريحة للقادة السياسيين فيها، كما هو شأن الحكومة الأميركية"، لافتاً إلى أن أبا العز "تحدث عما كان يتكهن العالم بأسره به".
أما عن هوية أبو العز فقال إنهم تحققوا وبحثوا بدقة عن هويته ويعرفون كل شيء عنه، وعن حياته الخاصة، مدعياً أن الكثير من الرجال المسلمين إن لم يكن غالبيتهم "يرتدون الخواتم، وأحياناً السلاسل الذهبية، لذلك لم يكن أمراً غير معتاداً أن يلبس أبو العز خاتماً، سيما أنه ليس سلفياً، بل جندي ثروة، كان يقاتل مع الجيش الحر، ثم تحول للقتال مع جبهة النصرة لأنها تدفع أكثر، كما هو شأن الكثيرين"، على حد زعمه.
وعن ظهور جندي/مقاتل حليق الذقن في فيديو المقابلة، نشر الصحفي الألماني فيديو يظهر مقاتلين من النصرة وحلفائها حليقي الذقن.
مكان التصوير
أما بشأن مكان التصوير فبدا مصراً في البداية على التأكيد بأنه لم يكن قرب نقطة تفتيش تابعة للنظام قرب قرية حريبل بل في منطقة بين الجبهات غير خاضعة لسيطرة أحد في خان طومان غير الخاضعة لسيطرة النظام، ثم تراجع لاحقاً يوم الخميس 29 سبتمبر/أيلول وعدل المنشور في صفحته بموقع فيسبوك، دون أن يدري فيما يبدو بإمكانية العودة للتعديلات التي طرأت على المنشور.
وقال إنه ليس من الواضح إن تم التصوير في منطقة الشيخ سعيد كما قال أبو العز في المقابلة، أو في خان طومان، كما أخبرهم الوسيط، مقللاً من شأن المكان، "طالما أن المكانين اللذين تمت الإشارة إليها لم يكونا تحت سيطرة الحكومة يوم التصوير".
وأضاف باستياء أن البحث في التفاصيل لدحض "ما تقوله القاعدة والدعائيون التابعون لها والجهلة مضيعة لوقته، وأن الكشف عن بعض الأمور لا يكون على طريقة أبطال الكومبيوتر الذي يتصرفون دونما مسؤولية وكهواة من وراء الشاشات".
وزاد بأن ذلك يتم بالذهاب لهناك تحت خطر داهم، مشيراً إلى أنه "يعرف أن الحقيقة للأسف ليس مريحة لدى البعض، لكن سيتابع عمله الذي يعده واجبه، وإن كانت هناك انتقادات".
وتساءل موقع صحيفة "دي فيلت" عن السبب الذي دفع تودنهوفر لإجراء اللقاء مع أبي العز إن كان ليس قيادياً رفيع المستوى في الجماعة ولا يمثلها وإنما يقاتل من أجل المال فقط، مشيراً إلى أن "النصرة"(فتح الشام) ذات هيكلية هرمية صارمة، تصل المعلومات السرية فيها فقط إلى الأعضاء المتحقق منهم عقائدياً.
وأشار الصحفي لارس هاوخ في مقال على موقع "كارتا" إلى احتمال أن تكون مخابرات النظام السوري قد غشته أو الجماعات المعارضة التي أرادت تشويه سمعة التنظيم.
وكانت رحلة تودنهوفر، العضو السابق في الحزب الديمقراطي المسيحي، إلى المناطق التي يسيطر عليها تنظيم "داعش" بموافقة قائده أبي بكر البغدادي، ثم نشر كتاب عنها، قد أثارت الجدل أيضاً، حول مدى استقلالية عمله ومدى تدخل التنظيم لتمرير دعايته من خلاله.
وأشار موقع "فايز نيوز" إلى أن السؤال الآن لم يعد فيما إذا كانت المقابلة مزيفة أم لا، وإنما "حول ما إن كان تودنهوفر يعلم بالخدعة، على الرغم من أنه باتت معروفة العلاقات الطيبة التي تجمعه مع نظام الأسد".
وقد أجرى الصحفي الألماني لقاء مع رئيس النظام السوري، في العام 2012، ووصف ابنة السفير السوري في الأمم المتحدة شهرزاد الجعفري في رسائل سُربت فيما بعد بـ"أميرة الشرق الأوسط".
وأكد "تودنهوفر" نفسه صحة الرسائل لاحقاً لموقع مجلة "شبيغل"، مبرراً ذلك برغبته في "الحصول على لقاء مع الدكتاتور"، على حد قوله.