الفلسفة الألمانية فلسفة محلية صرفة، تهتم -في الغالب- بقضايا الألمان ومشكلاتهم قبل أي شيء آخر، فالفلاسفة الألمان أو غالبيتهم فهموا أن "الفكر على الواقع الألماني ومشكلاته هو الحل"، والآن أصبح هذا التوجه من أهم ما يميز الواقع المعاصر لهذه الفلسفة، وللمساهمة في فهم هذه الفكرة بشكل أفضل يمكن تقسيم الفلاسفة الألمان لقسمين أو لنوعين:
نوع أول مفتون بالغابات والأحراش والطبيعة القاتمة، خصوصاً الطبيعة في منطقة الغابة السوداء، ويمكن أن نُعد من هذا النوع كلاً من شوبنهور ونيتشه وهيدغر وحالياً بيتر سلوتردايك، وقد كتبت عن سلوتردايك مقالاً طويلاً في أخبار الأدب سنة 2000 تحت عنوان "نقد العقل الوقح" فليعُد إليه من يريد. وظني أن هذا التيار يتحمل الوزر الأكبر فيما يخص الفكرة القومية الألمانية (النازية)، وما أدت إليه من أهوال عالمية، وهي فكرة لم تمت، وإن كان قد تم تحييدها، ولكن ما زال لها امتدادات معاصرة عند "النازيين الجدد" و"حزب البديل من أجل ألمانيا"، وربما أيضاً "حركة جيل الهوية"، التي تركز على الدعوة لقومية أوروبية واحدة تعادي الأجانب.
أما النوع الثاني من الفلاسفة الألمان فقد وهب نفسه لخدمة المجتمع، وفكرة التعايش، والدعوة لفتح المجال العام، ومحاربة دعاة الانغلاق على الأفكار القومية المتطرفة، وغالباً ما يهتم ممثلو هذا الاتجاه بالاقتصاد وعلم الاجتماع والإيكولوجيا وبقية العلوم الاجتماعية، ويمكن أن نعد من بينهم: كارل ماركس وماكس فيبر وجورج زيمل وتيودور أدورنو ونيكلاس لومان وحاليا يورغن هبرماس. ولي عن هبرماس دراسة لم أنشرها بعد بعنوان "معارك هبرماس التنويرية" تدور حول معاركه مع ممثلي التيار الفلسفي الأول في ألمانيا وخارجها، وعن نفسي أرى أن ماكس فيبر يعد نموذجاً مثالياً لهذا النوع الثاني، ومن ثَمَّ كانت خطة إعادة تدويره لهزيمة أفكار النوع الأول ومحاولة إبعادها عن المجال العام استعداداً لتخليق ألمانيا جديدة.
فبعد الحرب العالمية الثانية وضعت أميركا والحلفاء خطة تعليمية لترسيخ الثقافة الديمقراطية بين الألمان بهدف إبعادهم عن الأفكار القومية المتطرفة التي ألقت بالعالم في أتون حربين متتاليتين، ولأن أميركا بروتستانتية في الغالب فقد كانت تميل لماكس فيبر وكتابه عن "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية"، ربما لأنه درس فيه التجربة الأميركية بتمعن ووصل لأفكار أعجبت الأميركان وما زالت، المهم وجد الأميركان فيه ضالتهم فعمدوا على إحياء الخط الثقافي الذي يمثله، وعملوا على تسييده لإماتة الخط الذي يمثله هيدغر ونيتشه وما شابههما، ومن ثَمَّ تحول ماكس فيبر إبان الخمسينات والستينات إلى أيقونة ثقافية، ورمزاً فكرياً للقطيعة الثقافية الألمانية مع الخط الثقافي والتربوي لألمانيا القديمة أو قل لألمانيا القومية النازية.
وهنا جاء دور "مدرسة فرانكفورت" التي قامت بدور مثالي في هذا الصدد، وهي تعد بشكل ما امتداداً لأفكار ماكس فيبر عن العقلانية والعلمانية والتفكير النقدي ومشروع الحداثة الأوروبية التي لم تكتمل، والحقيقة نجحت خطة الحلفاء بقيادة أميركا في إعادة تربية الألمان على الثقافة الديمقراطية، وظني أن هذا النجاح أغرى الأميركان بمحاولة إعادة تنفيذ الخطة نفسها في أماكن أخرى.
يوجد فرق آخر بين هذين النوعين من الفلاسفة يتعلق بطبيعة العلاقات بين أفراد كل نوع منهما، حيث يميل أفراد القسم الثاني الذي وهب نفسه للعمل في المجال العام إلى العمل في مجموعات أو مدارس، على سبيل المثال "مدرسة فرانكفورت" والمجموعة التي أطلق عليها "مجموعة ماكس بلانك"، وكان لهبرماس دور بارز في كلتا المجموعتين، هذا بينما أفراد النوع الأول ممن يحبون الغابات والطبيعة القاتمة يعيشون -في الغالب- فرادى متوحدين في دوائر شبه مغلقة، وربما لا يهتمون بنتاج بعضهم البعض إلا إذا كان سابقاً عليهم، ومن هنا كان اهتمام نيتشه بأعمال شوبنهور، واهتمام هيدغر بأعمال نيتشه، ومن الأشياء الطريفة في هذا السياق علاقة هيدغر بإنتاج تلميذه الفيلسوف الكبير هانز – جورج غدامر؛ حيث لم يشر هيدغر طوال حياته لنتاج غدامر الفلسفي إلا مرة واحدة سراً، وذلك في إحدى رسائله الأخيرة إلى صديقته القديمة الفيلسوفة الألمانية – الأميركية هانة آرندت، ففي هذه الرسالة قال لها: (وأنا هنا أنقل عن النص الألماني، ص 226): "ما ينبغي أن تقرئيه هو دراسة غدامر عن هيغل، وكذلك المجلد الثالث من أعماله القصيرة".
والجدير بالذكر أن هذا المجلد يضم ما كتبه غدامر عن هيدغر نفسه وعن الاتجاه الفينومينولوجي، خاصة إدموند هوسرل ومدرسته، أي أنه لم يهتم من نتاج غدامر إلا بما كتبه غدامر عن هيدغر وخطه الفلسفي. وعندما أفكر في هذا الأمر أرى أن السبب قد يرجع إلى أن غدامر لم تكن له مثل هذه القتامة الفكرية لخط هيدغر، وأنه كان يختط لنفسه طريقاً خاصاً به بين هذين النوعين من الفلاسفة، ومن هنا كان اهتمامه بفلسفة اللعب في الفن والحياة، ومن هنا أيضاً صار أكبر فلاسفة النصف الثاني من القرن العشرين.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.
مقالات الرأي المنشورة في “عربي بوست” لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.