"أريد كتاباً يدعوني إلى الإسلام"
قد لا تستغرب الطلب، ولكنك قد تستغرب الطالب، خصوصاً إن عرفت أنه عربي مسلمٌ وعاش في أرض المسلمين، بل وناهز الثلاثين من عمره.
وليس الاستغراب هنا من شخص يحاول معرفة دينه فهذا محل احترام وتقدير، وإنما من شخص يقيم شعائر دينه ما يقارب العشرين عاماً دون أن يفهمها!! فنحن المسلمون، فينا من اتخذ دينه عادةً وُلِد ليرى أبويه يقيمانها، فلا عجب إن رأيته يقيم شعائره صباحاً، ويبيت طوال الليل يشتم أباه أو أمه!!
وقد يكون هذا ما حاول أن يوصله إلينا الشيخ محمد عبده عبر أكثر من مائة عام، حين قال تعليقاً على زيارته لأوروبا:
"وجدت هناك إسلاماً بلا مسلمين، وأجد هنا مسلمين بلا إسلام".
غير أني أجد في ذلك إثماً يقع على الجميع، بداية من الأب والأم اللذين لم يفهما الأبناء المعنى الحقيقي للدين، مروراً ببعض العلماء الذين انفضوا لمناقشة أمور الحلال والحرام وما رأوه دفاعاً عن الدين بالهجوم على كل شيء ليس منه، منصبين أنفسهم – بدعوى العلم – جنوداً للدفاع عن دين الله، ونسوا أو قل تناسوا أن إعلاء أسس ومبادئ الدين في نفوس الناس هي وظيفتهم الأولى، وهي سلاحهم الأقوى ضد أي عدو للدين، وهي الكفيلة لأن يكون كل مسلم حارساً شديداً على كل ثغر من ثغوره. ونهاية بالشخص نفسه وهي أقل الآثام عندي، والذي بات يقيم الشعائر والعبادات جسدا بدون روح، فأضاع وقته ويا ليته قد استغله في استعادة هذه الروح ومعرفة معناها.
وقد فاجأني شيخ الأزهر الجليل "محمد الغزالي"، حين وجدته يخصص أكثر من نصف كتابه المسمى "ليس من الإسلام"، لشرح الإسلام نفسه، أهدافه ومناهجه؛ ليخرج كل ما تعدَّى على هذه المبادئ والأهداف، دون التنقيب عن أي نصوص أو أحاديث قد أولت لبحث مسألة بعينها.
فتراه يتحدث عن الإسلام، ليس إسلام الشعائر كالصلاة والزكاة والحج، وإنما إسلام السماحة والحب، وعدم التقليد، والتسامي، والجزاء الحق، والأخوة والمساواة، والحدود "وليس إقامتها"، وإشاعة النعماء، والجهاد، والقرآن، والسنة، وعلاقة كل منهما بالآخر.
ولهذا المنهج الذي اتخذه الغزالي أسباب وتفسير، فقد لا يمر في رؤوس بعض المسلمين حين الحديث مثلاً عن الحدود أو الجهاد سوى الدماء "فما بالك بغير المسلمين"، وهذا خطأ كبير، فالدماء ما هي إلا الشيء المادي الظاهر للمسألتين، أما روحهما فتختلفان كثيراً، يقول الغزالي في الحدود:
"والشدة التي تتسم بها عقوبات السرقة والزنا، ليست الوسيلة الفذة لحماية الأعراض والأموال، وحمل النفوس على احترامها. فإن صيانة الحقوق العامة تستند أولاً إلى الإيمان والعبادة والخُلق، وما تجدي أقسى الحدود في رفع أمة اهتزت فيها الضمائر واضطربت العقائد. والإسلام شديد الحرص على مطاردة الخطأ إذا استعلن، وما يعده أو يتوعد به على الأصح – من جلد وقتل هو لإبقاء البيئة العامة محصنة، لا يتطور فيها الشر من لمم محقور إلى إثم محظور".
ويقول في الجهاد:
"إن الجهاد المثمر، يحول الخير من علوم نظرية، ومسالك فردية، إلى حقائق ثابتة، وتقاليد عامة، ومناهج منظمة".
إن نسيان المبادئ والأهداف التي قامت من أجلها تلك المسائل، هي التي شوهتها وجعلتها بصورتها الوحشية التي يصورها لنا البعض، فأي جسد تنزع عنه الروح ولا يتعفن؟! وأي وجه تنزع عنه أذنه وتفقأ عيناه وتدمي وجهه، ويصير جميلاً بين الناس؟
هو ذات الخلط الذي نراه أحياناً بين الإسلام والأفكار الأخرى!!
فكيف يقارن دين معصوم بفكر عقلاني مستحدث قد يصيبه الخطأ والوهن؟!
ولا أتحدث هنا عن المدارس الفكرية كالعلمانية والليبرالية والاشتراكية وغيرها، وإنما يمتد كلامي حتى إلى الأفكار الإسلامية نفسه، التي قد يظن أهلها أنها معصومة كالإسلام من الخطأ لمجرد ارتباط اسمها به!!، وهذا ليس صحيحاً، فالإسلام ليس على مستوى المقارنة أصلاً بالسلفية مثلاً، أو بالأشعرية، أو بالشيعية، ولا بغيرهما، فشتان شتان بين دين معصوم وفكر عقلي يبنى عليه.
يقول الغزالي نقلاً عن محاضرة للدكتور محمد البهي عن مقدمة ابن خلدون:
"إن الفكر الإسلامي ليس هو الإسلام، بل هو صنعة المسلمين العقلية، في سبيل الإسلام وبمشورة مبادئه.. الفكر الإسلامي غير معصوم عن الخطأ، والإسلام معصوم عن ذلك كله. وكتاب الإسلام – لأنه معصوم عن الزيف والضعف – له قداسة، وله حق الطاعة المطلقة على المؤمنين به، والفكر الإسلامي لا تجب له الطاعة، إلا بقدر ما فيه من تمثيل لكتاب الله ورسالة السماء، ذلك أنه أصالة يخضع للنقد والمخالفة".
ففي الإسلام، المذاهب الفكرية جميعها سواء، ولا تختلف إلا بقدر ما تحمل من تمثيل لكتاب الله ورسالة السماء، فليبرالية تهدف لتحرير الإنسان والعقل كفرد وكجماعة من القيود السلطوية الثلاثة "السياسية والاقتصادية والثقافية"، وتتحرك وفق أخلاق وقيم المجتمع وتقف حدودها عند أذية الآخرين والضرر بهم هي فكرة إسلامية محضة، ولا يعنيني مَن اخترعها وما الذي علينا أن نسميها به.
ولكن البعض حاول أن يوقف منهج الإسلام التطوري ويمنع إعمال العقل فيه، ويدعو إلى التقليد، والبعد عن التفكير، وذلك لأن من قبلنا قد فكروا وعلينا الآن العمل بما توصلوا إليه!!، ولست أرى رداً عليهم خيراً مما قاله الغزالي شارحاً منهج الإسلام في عدم التقليد:
"إن إيمان التقليد لا خير فيه عند علماء الإسلام، والعقل البشري يجب عليه أن يجوب آفاق السماوات والأرض، لكي يعرف الله والعالم. وإلا فهو غافل عن وظيفته الأولى، وكل ما يتولد عن تحرير العقل من نتائج قريبة أو بعيدة، وكل ما يؤدي إلى تحرير العقل من الوسائل صعبة أو ذلول، فهي من أصول الإسلام ومراميه، ولعل القارئ الحديث يدهش إذا علم أن الفكرة السائدة في الفقه الإسلامي أن: "العقل أساس النقل"، وأن ما يشيده الوحي من تعاليم، إنما يقوم على مهاد من العقل المجرد والتفكير السليم".
نعم، فالعقل المجرد والتفكير السليم هما الطريقان الثابتان للتجول في ربوع القرآن وسنة الرسول الكريم، وما قراءة ما سبق مما توصل إليه علماء الأمة سوى وسائل للتدعيم هذا الفهم، وليس لتحديده ومنعه من التطور والنمو.
العقل هو الذي يجعلنا نسأل بعد هذه الأعوام الطوال عن سبب لاعتناق الإسلام، وأن نبحث عن شيوخ ليجددوا لنا إسلامنا، ويدعونا إليه مرة أخرى، علنا نصل إليه، ونعمل وفقاً لمبادئه وأهدافه، وليس تقليداً لما يفعله آباؤنا، علنا نستطيع أن ننشر هذه المبادئ والأهداف، وأن تغلب على أقوالنا، فلا نصبح في حاجة إلى الدفاع عنه ليلاً ونهاراً، فإنّ غيرنا إن علِمه منا بمجرد الأفعال، فلن يشك أبداً أو يتبادر في عقله سؤال إن كان أي فعل آثم كقتل أو حرق أو تخريب أو غيره ينبع من الإسلام أو ليس منه.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.