بهذا الوعد البريء الحاسم اختتم الطفل يزن حواره معي، واعداً إياي بأن يصبح سائحاً ألمانياً مرفَّهاً، كما أخبره والده بذلك قبل سفره النهائي إلى ألمانيا، يزن طفل لم يتجاوز عمره التسع سنوات، استطاع أن يقنعني بكل صدق وعفوية بأن الأحلام خلقت كي تتحقق حتى وإن أظهر لنا الواقع عكس ذلك.
قرب مسجد صغير في إحدى مدن لبنان، ينام يزن مع إخوته الصغار وأمه في غرفة لا تكاد تتسع لشخص أو أكثر، في تلك الغرفة الصغيرة جداً تنام معهم أحلامهم الكبيرة، أملاً في أن تتحقق في المستقبل القريب الأمن.
كان يحمل أخته الصغرى بين يديه وهو يهدئ من صوت بكائها بعد أن آلمها دوي وقعها على الأرض، حملها بحنان الأبوة وعطف الأخوة وهو يعدها بأن الألم سيذهب سريعاً حاله حال الآلام الأخرى التي عاشوها سابقاً، يشير لأختيه الصغيرتين بأن تخفضا من حدة أصواتهما كي تستطيع صغيرتهم أن تهدأ وتنام.
والده الذي ذهب كي يحقق له الحلم المنتظر، ما استطاع أن يحقق له سوى القليل جداً من الأمان في بلد يخلو من أصوات القذائف اليومية وصدمات الموت اللحظية، ولكنه في الوقت ذاته مكتظ بفوضى مسؤوليات أسرة تكبره بأعوام كثيرة وترهقه لأجيال مديدة.
من حلب.. هكذا بدأ حواره معي وهو يضع أخته الصغيرة على حضنه الصغير، وبسعادة غامرة أضاف أن والده قد سافر إلى ألمانيا كي يصبحوا سياحاً، أمام سعادته المفاجئة التي باغتتني في الوقت الذي كنت أستعد فيه لمواساته وللتخفيف من حدة آلامه، لم أستطع أن أتفهم قدوم مثل هذا الأمل الكبير في هذا الوقت الحزين.
فسألته بغرابة فضحت دهشتي: أتريد أن تصبح سائحاً حقاً؟ قال لي: نعم، فأنا سوف أصبح ألمانياً وإخوتي كذلك، سوف نملك مالاً كثيراً نستطيع به أن نأتي إلى لبنان سياحة لنسعد كما يسعد السائحون، وسوف نلتقط أيضاً الكثير من الصور التذكارية التي ستبقيني متذكراً دوماً بأنني أصبحت ألمانياً أملك من المال والجنسية والسعادة ما ينسيني يوماً أنني كنت لاجئاً سورياً تعباً.
إحداهما الصغيرة قالت بعد أن تعارفنا بأن يزن لن يذهب إلى المدرسة ما دام والدهم ليس هنا، إذ لا معيل لهم سواه إلى أن يصبحوا سياح الغد المنتظر، بينما الأخت الأكبر لم تضف شيئاً سوى الصمت المطبق والذي بهدوئه نطق عن وضعهم المأساوي بصرخة أطبقت على جميع مفاهيم الإنسانية وتعاريفنا المزدوجة لها، حين يصبح أطفالنا شباباً يحملون ثقل العالم فوق أكتافهم، فلا تسأل لم وصلنا إلى ما نحن عليه الآن، وحين ترى أطفالاً يقامرون بحياتهم ويخاطرون بأرواحهم من أجل القليل من النقود عند بيعهم أقلاماً زرقاء أو وروداً حمراء، فلا تعجب أبدا لمَ لمْ يأتِ ذلك النصر الموعود.
ذلك النصر لن يأتي وأطفالنا يعيشون حياتهم بجسد ميت، وقلب مكسور، وروح ذابلة، لن نعيشه ما دام أطفالنا ميتين وهم على قيد الحياة يرزقون مما قل من مالنا الوفير ومما زاد من تقاعسنا المرير من همٍّ وألم وخوف، إن الوضع المأساوي التي تعاني منه تلك الفئة العمرية من الأطفال، والتي عاشت حياتها تشكو خوفها من صدمات الموت المتتالية أو من ألمها الخانق حين يؤكد لهم الموت مخاوفهم ليأخذ معه من كانوا خائفين غيابه، ستقف حاجزاً مانعاً لطاقاتهم من أن يعمروا ما هدم من بلدنا وما تهدم من أحلامهم، تلك الفئة حرمت أغلبها من الأمان الذي ما عاد موجوداً بينهم، لا يدرون إن كانت الأيام القادمة سترتب لهم موعداً للقاء أم لا؟
نظر إليّ بعينيه اللتين يملؤهما الخوف والفرح متسائلاً فيما إن كان حلمه في أن يصبح ألمانياً سيتحقق يوماً، أم أن ذلك الحلم سيموت كما مات سواه من الأحلام السابقة؟
فما كان مني حينها إلا أني شاركته حلمه الكبير في سنه الصغيرة هذه.. وقلت: نعم.. غداً ستصبح ألمانياً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.