ضممت أحلامي وحملت طموحاتي الكبيرة وتوجهت للمقابلة الشخصية التي أُعلن عنها في الصحيفة الرسمية لجميع الطلبة الذين تقدموا في ذلك العام للحصول على مقعد في كلية العلوم قسم الطب المخبري، حُدد الزمان والمكان، فالمكان لم يكن في حرم الجامعة كالمعتاد، فالجامعات كانت مغلقة بقرار من جيش الاحتلال الذي يحارب العلم وكل من يطلبه، عقاباً لشباب فلسطين على انتفاضهم ضده (وكانت انتفاضة الحجارة آنذاك).
لم يكن الوصول إلى رام الله سهلاً، فالطرق الرئيسية مغلقة، والطرق الفرعية والالتفافية تخنقها حواجز المحتلين وتسد أنفاسها، صحيح أن رام الله لا تبعد عن قلقيلية سوى 70 كم وعادةً ما تأخذ الطريق ساعة ونصف الساعة سفراً في التكسي بين المدينتين، إلا أن طريق مَن يريد السفر في أوقات الانتفاضة من مدينة إلى أخرى قد تستهلك ساعات من وقته وهو يتحايل على المرور ويحاول إيجاد منفذ ليعبر منه، وربما لا يستطيع الوصول في نهاية المطاف فيعود "بخُفي حُنَين".
لن أطيل عليكم بسرد التفاصيل المملة القاتلة للنفس والوقت عن الطرق وكيفية الوصول.. على أي حال وصلت إلى رام الله في النهاية مع زميلة خرجت معي لهدف مشابه، وصلت المكان المحدد فوجدته يكتظ بالطلبة الذين حضروا للمقابلة مثلي… كان عددهم كبيراً جداً فسألت نفسي: ما هي فرصتي في النجاح والحصول على مقعد بين هؤلاء جميعاً؟.
شككت في إمكانياتي وفي قدرتي على اجتياز المقابلة، خاصة عندما شاهدت الرجل المقطب الجبين ذا البدلة السوداء الذي كان يخرج في كل مرة، من غرفة لجنة المقابلة لينادي باسم الشخص المطلوب، لم أكن أعرف من الحضور أحداً أتحدث معه لعلّي أعرف شيئاً مما يجري حولي، عسى نفسي تطمئن، خاصة أنني لم أكن أعلم ماذا تعني مقابلة شخصية، فلم يخبرني أحد ما أي شيء عنها في السابق!.
غرقت في مخاوفي، وقطعت الغرفة ذهاباً وإياباً مرات عدة؛ قبل أن يخرج الرجل المقطب الجبين وينادى باسمي.
ارتبكت بل ربما تعثرت قدماي قبل أن أدخل الغرفة، كانوا رجالاً عدة لا أستطيع تذكر عددهم تماماً أو أشكالهم. ما أستطيع تذكره هو شخص واحد فقط علمت لاحقاً أن اسمه الدكتور "فكري"، فهو تقريباً من استفرد بتوجيه الأسئلة إلي، مبتدئاً بسؤالي عن اسمي، فاستغربت حينها، فقَبْل لحظة نادوني باسمي لأدخل والآن يعود لسؤالي عنه!، ولكني أجبت دون أي تعليق، ثم انتقل يسألني عن الجامعات التي قدمت فيها والتخصصات التي تقدمت لها، فأجبت، وكان من بين تلك الجامعات جامعة تجري مقابلاتها للطلبة في نفس الوقت الذي أقابل فيه لهذه الجامعة، فسألني: هل تعلمين أن مقابلة جامعة "كذا" تجري الآن؟، فأجبته: نعم، فعاد يسألني: هل ستذهبين للمقابلة؟، فقلت: لا، فقال: ولماذا؟، هل تضمنين أن نقبلك في جامعتنا؟.
وبدلاً من أن أجيبه: نعم، فأنا حاصلة على 90% في الثانوية العامة وأجيد اللغة الإنجليزية ولديَّ من الإمكانيات الأخرى ما يؤهلني للقبول! أجبته: لا يهمني كثيراً إن لم أحصل على قبولكم، فأنا لديَّ خيارات أخرى، سأذهب مثلاً إلى أي كلية وأحصل منها على دبلوم التمريض، وسأجد حينها فرصةً للعمل؛ لأن ما يهمني الآن في هذه الظروف هو الحصول على شهادة تؤهلني للعمل، وليس مهماً ماذا تكون الشهادة.
توقف حينها عن طرح المزيد من الأسئلة، وقال لي: شكراً تستطيعين الخروج، وشاهدت الـ(X) الكبير الذي وضعه على الغلاف الخارجي لملفي، وعلمت لاحقاً أنه كتب ملاحظة: هي لا تريد أن تدرس بكالوريوس طب مخبري، بل تريد الحصول على دبلوم تمريض.
وأُعلنت أسماء المقبولين بعد شهر، وطبعاً لم يكن اسمي بينها، وراجعت دائرة شؤون الطلبة لعلي أجد فرصة أخرى للالتحاق بالدراسة في ذلك التخصص مكان أحد المستنكفين مثلاً، ولكن القطار كان قد فاتني، ولم يعد بالإمكان أن أستقلّه بعد فوات الأوان.
طبعاً لم أستسلم، فالتحقت فعلاً بكلية التمريض في الجامعة نفسها التي تقدمت للحصول منها على شهادة الطب المخبري لأحصل على بكالوريوس تمريض، على الرغم من أنني لم أكن أطمح بدراسة التمريض، بل كنت أحلم بأن أصبح طبيبة نسائية، حتى أن جدتي احتفظت بمريول أبيض لي منذ صغري وكانت تريني إياه بين الحين والآخر وتقول لي: هذا لك عندما تصبحين دكتورة!، وتوفيت جدتي قبل أن أنهي الثانوية العامة، وبقي المريول.. وبقي الحلم..
ولكن لأنه لا يوجد هناك كلية طب في فلسطين حينها، ولم تكن ظروف أبي تسمح بأن أدرس الطب البشري في دولة عربية أخرى، انخفض سقف أحلامي، ليصل إلى بكالوريوس التمريض، وبدلاً من طبيبة نسائية تابعت دراستي وحصلت على دبلوم عالٍ "قبالة وتوليد"، وتابعت دراستي بإصرار وجِد حتى حصلت على درجة الدكتوراه في التنمية البشرية.
وقد علمتني تلك المقابلة التي فشلت فيها فشلاً ذريعاً درساً قاسياً هو: "تعرَّف على قدراتك؛ فأنت لديك الكثير من الإمكانيات، لا تستهِن بنفسك، ارفع رأسك عالياً وامشِ بثبات وقوة، تقدم واعمل ولا تتردد أو تقل لا أعرف أو أخاف؛ بل جرِّب وحاول، وإن تعثرت قُم مرة أخرى وتابع المسير؛ فهناك الكثير بانتظارك.. فقط إذا كنت أنت تريد ذلك".
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.