قبل عشر سنوات من الآن كنتُ على أبواب مرحلةٍ مهمة، هكذا ظننت وقتها، كنتُ أستعد للالتحاق بالجامعة، بعد سلسلة خيبات متتالية، هذا لا يعني أن معدلي كان سيئاً، لا سمح الله، بل على العكس تماماً، كنتُ وقتها قد تحصلت على المرتبة الثانية على مستوى المملكة العربية السعودية في الفرع العلمي.
ظننتُ لوهلةٍ أني امتلكت مصباح علاء الدين، وأن رغبتي الملحَّة في دراسة الطب قد تحققت، لكن كفلسطينية فإن لعنة الاغتراب التي ورثتها، وأجنبيَّتي التي وسموني بها في بلاد لم تعترف بي، كل هذا كان حائلاً بيني وبين الطب؛ ليسقط أول أحلامي بفعل جواز سفر ولون كرتٍ ورقمٍ وطنيّ.
ما زلتُ أذكر موظفة الاستقبال في جامعة الملك سعود، كنتُ حينها واثقة من نفسي، سعيدة ومبتهجة، وأنا أقدم لها أوراقي وكشف علاماتي، أخبرها بسعادة أني تحصلت على المرتبة الثانية على مستوى المملكة، وأني أرغب في دراسة الطب، يومها فاجأتني بأول صفعةٍ عنصرية أتلقاها حين قالت بعنجهيةٍ وغرور، وهي تلوّح بيدها كمن يُبعد الذباب عن المائدة: "يلّا يلّا.. بس نكفّي اللي عندنا".
سحبت ملفي وأوراقي بسرعة وأنا أداري دموعي في عيوني لأهرب من المكتب، دخلت إلى سيارة والد صديقتي الذي ينتظرنا، أخفيت وجهي بالشال الذي أضعه على رأسي وبكيت، لا أذكر كم بكيت يومها، لكنني ما زلت أذكر تورّم عينيّ واحتقانهما من شدة البكاء، لا أصعب من شعور التهميش، كأن تكون إنساناً من درجةٍ ثالثة.. لا لا، بل أنت لست موجوداً من الأصل، أنت كائن غير مرئي وغير مسجل في حسابتهم، أنت الأجنبي هنا.
يومها فقط شعرت بمرارة الغربة التي عشتها، عرفت حينها أنني لا أنتمي لهذا المكان مُطلقاً، وأن كل محاولاتي للاندماج والانتصار لنفسي عبر التفوق وإحراز مراتب عليا ذهبت أدراج الريح، قررتُ حينها أن أخرج من تلك البلاد التي حاصرتني طوال 18 عاماً من عمري، 18 عاماً من المحظورات، من القيود ومن التهميش والاستبعاد، 18 عاماً وأنا ممنوعة من أبسط حقوقي كأن أمارس الرياضة، لا بل وأبسط من ذلك، كأن أشارك في المسابقات الثقافية والعلمية التي تجري بين المدارس، هكذا كنتُ دوماً كائناً غير موجود.
أردتُ أن أهرب بعيداً عن أسوار الرياض، التي سلبت أحلامي واحداً وراء الآخر، ما زلتُ أراني تلك الطفلة التي كانت تحلم أن تصير راقصة باليه، لطالما كنتُ أقف على رؤوس أصابعي وأمارس دوراني المستمر وأنا أرفع ساقي للأعلى، أدور.. أدور، لأنكمش في داخلي وأبكي، كنتُ أعرف أن حلمي هذا يدخل في دائرة المحظورات والحرام، فالرقص حرام، والموسيقى كذلك، حسبما درسنا في حصص الدين.
كنتُ أريد أن أحرر عقلي بعيداً عن عذاب القبر وفتنة المحيا والممات، أن أجد وجهتي بعيداً عن العقوبات التي تلاحقنا في كل وقت، واسم الله الذي لا يكفون عن ترديده في كل حصة دين "عزيزٌ ذو انتقام، شديد العقاب"، كثيراً ما كنتُ أتخيل الله يتحين الفرصة المناسبة ليمارس انتقامه مني ويعاقبني.
كنتُ أخاف أبسط الذنوب وأصغرها كأن ينقص خشوعي في الصلاة، حتى إنني كنتُ كثيراً ما أعيد صلاتي مرة واثنتين وثلاثاً، كنتُ أستحضر النية وأكررها، وأخاف النفاق، لم أكن أنام إلا على وضوء حتى في وقت حيضي، وكنتُ كثيراً ما أعيد الوضوء مرة واثنتين وثلاثاً، أفزع من نومي كالمذعورة إن وجدتني قد نمت على جانبي الأيسر، أتعوذ من الشيطان ثلاثاً وأنفث على جانبي الأيسر، كنتُ أعيش في حالة فوبيا مستمرة من الموت ومن عذاب القبر، فضلاً عن مشاكل النوم التي أرهقتني طويلاً، بسبب قصص عذاب القبر التي كانوا يرددونها علينا في كل حين، تسجيلات صراخ المعذبين في قبورهم، صور تفحم بعض الجثث التي يعرضونها علينا بين الحين والآخر.
كل هذا جعلني أقيم علاقتي مع الله على أساس من الخوف والتيقظ والتنبه، خوف من أبسط الأشياء، فالله يمهل ولا يهمل، ويستدرجهم وغيرها الكثير، أخاف الموسيقى والأغاني، أخاف ألعابي في الليل، تلك التي ستتلبسها الشياطين؛ لتطرد الملائكة بعيداً عنا، أخاف صوري فأخفيها، أخاف الوقت والأحلام، أخاف على والدي وعذاب القبر، كنتُ كثيراً ما أبلل وسادتي بدموعي خوفاً عليه، فقد كان حينها لا يُصلّي، وأنا أحبه جداً، فكنت أخاف عليه من الثعبان، ذاك الذي سيلتف على تارك الصلاة في القبر فينهش عظامه ليلقيه في النار سبعين خريفاً، كنتُ أتسلل إلى غرفة والديّ لأجس أنفاسه خشيةً عليه،أعود بعدها إلى فراشي مطمئنة أن ما زال هناك فرصة للتوبة وربما النجاة.
كان هذا حالي لسنوات عدة، سنوات من المعاناة والخوف، الخوف من تأخير الصلاة، الخوف من دخول الحمام بقدمي اليمنى، الخوف من مسك الشوكة في يدي اليسرى، الخوف من رؤية الصليب، وهذه لها قصةٌ أخرى.
أردتُ أن أنقذ نفسي، أن أحررها، أن أعيد تشكيل علاقتي مع الله والأشياء من حولي، أن أعيد تعريف الإيمان من جديد، أن أكتشف الإسلام على حقيقته.
أردتُ أن أجرب شعور الحريةِ التي حُرمت منها، كأن أخرج للشارع وحدي دون رقابةٍ ولا محرم، كأن أتعامل مع الجنس الآخر بأخويةٍ وشفافية وبلا حجبٍ وستائر، لكنهم لم ينسوا طبعاً أن يذكرنا مراراً وتكراراً بالشيطان الذي سيكون ثالثنا، وأن الرجل ذئب بشري شرس لا يؤتمن، وأنه سيتحين الفرصة للانقضاض علينا بأول خلوة، وهذا صحيح بسبب الكبت الذي يعيشه كلا الجنسين.
فالرغبة في اكتشاف الآخر قد تدفعهم لأسوأ من ذلك بكثير، فضلاً عن الشذوذ، الذي انتشر بكثرة في السنوات الأخيرة؛ لذا أردت الهرب، ورفضت المنحة التي تحصلت عليها كمكرمةٍ ملكية من الأمير سلطان، للدراسة في جامعته، رفضتها لسببين: الأول أني أردت أن أجرب الحياة بمعناها الحقيقي لا كمقبرة للأحياء، والثاني محدودية التخصصات التي توفرها جامعة الأمير سلطان، والتي لم تكن في دائرة ميولي.
هكذا تركت الرياض، خرجتُ منها بحثاً عن حلمي؛ لأواصل متاهتي الخاصة وتنقلاتي المستمرة ما بين ثلاث دول وأربع مدن؛ لأفقد كلاً من الاستقرار والانتماء دفعةً واحدة.
هربتُ من عنصريةٍ لتقابلني أُخرى أبشع منها.
لكن كل ما أردته في ذلك الوقت، أن أنجو بما تبقى مني!
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.