سافرت من دمشق إلى حلب بالحافلة (الباص) أول مرة وكنت شاباً صغيراً لم يتجاوز العشرين، وحين انطلقنا ووصل بنا الباص إلى شمال دمشق في القلمون، رأيت على يسار الطريق فوق قمة جبل تمثالاً، وكانت القمة تعانق السماء، وكان التمثال تمثال حافظ الأسد، رافعاً يده فيما أظن..
فنسيت الرحلة ونسيت نفسي، وانتابني حزن عميق لم يفارقني حتى وصولي إلى حلب، واسودَّت كل الرحلة في وجهي.
لم يكن لي ثأر شخصي معهم أو مع أجهزة مخابراتهم، ولم أتعرض يوماً لموقف مع تلك الأجهزة، لكنني كنت أعرف سلوكهم من خلال المدرسة، ومن خلال ما نسمعه وما يدور حولنا.
وفي تلك الرحلة كنت منطلقاً من دمشق أشعر بجمال بلادنا في شوق لرؤية حلب المدينة العريقة، وحين شاهدت تمثال الأسد يقبع فوق ذلك الجبل محتقراً إنسانيتنا، متنكراً لوجودنا، معتبراً نفسة إلهاً أو هكذا خُيل إليَّ، تساءلت لحظتها: كيف يمكن أن تكون كل هذه الحضارة العريقة وكل هذا الشعب بملايينه وكل هذه البلاد الواسعة وكل ما ترسخ في ذاكرتي الغضّة آنذاك من كتبي ومدرستي عن تاريخ سوريا وما عرفته أيضاً من خلال جدي ووالدي عن العثمانيين والفرنسيين ومرحلة الانقلابات التي كان يذكرها والدي واحداً واحداً.. كيف يمكن أن يتحول كل هذا بلحظة ليرتبط بشخص هالك فتسمى سوريا الأسد؟!
كيف يُحتقَر شعب فيه من العلماء والأحرار والرجال الأكثر قيمة من قِبل حفنة من الأشرار المتسلطين الذي حولوا مدارسنا إلى أماكن قمع وإرهاب إلى هذه الدرجة؟! وتسمى كل البلاد باسم أحدهم؟!
كان هذا التمثال حين شاهدته إذلالاً لنفسي ما بعده إذلال وصفعة أشعرَتني أنني عبد لهذا الفاني البغيض.
ولم أنسَ تلك الرحلة التي أصبحت بغيضة منذ لحظة مشاهدة هذا الصنم يتحدى إنسانيتنا جميعاً، وكنت أرى هذا في العيون التي حولي في ذلك الباص واجمةً تنظر إليه دون كلام، ولم أنس ذلك اليوم البغيض حتى اليوم، ولن أنساه ما حييت.
وقبل الثورة السورية المجيدة التي ستغير وجه المنطقة وتاريخ العالم بلا مبالغة، وصل الأمر بشبيحة النظام وزبانيته إلى أن ينعتوا بشار الأسد بسيد الوطن.
وطبعاً هناك إشارة ضمنية عند وجود سيد تعني ضمناً وجود عبيد، وهذا المعنى كان فيه من الاحتقار لسوريا وشعبها ما يزيد على كل ما فعله الأسد (الأب)، فسوريا التي تحوي رفاة آلاف العظماء ليس أقلّهم الأمويين الذين فتحوا الدنيا ولا خالد بن الوليد ولا صلاح الدين الأيوبي أو يوسف العظمة، ليس أولهم ولا آخرهم هؤلاء، فسوريا كانت بوابة الشرق على الغرب وبوابة الغرب على الشرق وتمتد حضارتها إلى عشرة آلاف عام مضت مؤرخة بالحرف السوري القديم الذي أهدته الحضارة السورية للبشرية، وهي الممتدة إلى اليوم، فدمشق هي أقدم عاصمة في التاريخ، وحلب هي أقدم مدينة لا تزال مأهولة في التاريخ.
لا يمكن لعسكري قليل الثقافة وقليل المعرفة يفتقر إلى الأخلاق والإنسانية ولا يفهم سوى لغة الدم أن ينسب هذه البلاد لاسمه دون أن يكون ذلك إهانة للتاريخ والإنسان.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.