ذاكرة الأحياء والأماكن لا تموت

أبي الذي صرخ قائلاً: إيش بيها، هو الآن خارج ذلك الحي الذي لم يبقَ منه وفيه شيء على ما هو، لم يبقَ منه سوى منفضة سجائر يتيمة تشتاق لرجفة يديه على حوافها، مناديل مُخاطية مرمية على عتبات الغُرفة، وزكام مُزمن عَدِمَ علاجه إلا بجرعة تنفّس من هواء ذلك الحي وذات الغرفة التي شربتُ بها صديقتي فنجان قهوةٍ سادة مليء بسكّر الذكرى.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/17 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/17 الساعة 03:41 بتوقيت غرينتش

ذاتُ يوم كُنت مع صديقة من مدينتي حلب، نَدرس في ذات المعهد، معهدٌ في حي شعبي، بعد انتهاء الدوام عرضتُ عليها دعوة لبيتنا لشرب القهوة "كلمة وتنقال" فاجأتني بالقبول سائلةً: إذا أهلك بالبيت ما عندي مانع.

قُلت لها: طبعاً أهلي بالبيت، هيّا بِنا.. دخلنا في شارع الحي الذي أسكنه ولسوء حظّي كانت أم نمر لديها مُناوبة على شُرفة بيتها تتفقد وتُراقب المارّة وتُعاكس "اللي رايح واللي جاي"، ولكن هذه المرّة كان الأمر مُحيراً لأم نمر: "حمادة ومعه فتاة غريبة عن الحي! يا سلام".

وصلتُ وصديقتي لعتبة بيت أم نمر أُحاول أن أتجاهل رؤيتها ومُعاكستها، لكن لم أُفلح لتستوقفني قائلة: أهلاً أهلاً بحمّودي، أهلاً بالكاتب الجخّة، أهلاً بالـ…"، تجاهلتُ كلامها وأكملتُ المسير قائلاً لصديقتي: هذه جارتنا أم نمر "بركة" الحارة، لا تُدقّقي على كلامها.

قبل أن أصل للبيت قامتْ أم نمر بالواجب، وأوصلت الخبر لأمي ولجارتي أم صطيف، ولضرورة الحدث أبلغتْ خالتي أم خليفة أيضاً عبر الهاتف الأرضي.

وصلتُ البيت لتفتح لي أُختي وتُشخّص عيناها من هول ما رأتْ..لك مين هي؟ .. لا تُكثري من الكلام، هات لنا فنجاني قهوة إلى غُرفتي.

قبل أن تصل القهوة، وصلت أم نمر إلى بيتنا برفقة أم صطيف وخالتي أم خليفة لعقد اجتماع طارئ مع أمي وأبي حول الانتهاكات التي ارتكبتُها بحق عادات وتقاليد الحي المنكوب العامر بالبساطة، والذي بات مُهدّماً بذات البساطة، الأحاديث والأقاويل بين صد ورد التي تخللت الاجتماع: كيف يجيب بنيّة على البيت، ايش رح تحكي العالم علينا، مو عيب عليه، إيش ما عاد يستحي يعني.

مُهاترات وصراخ وعويل ونواحٍ كالثكالى صدعوا بها رأس أبي، أبي الذي ظلَّ ساكتاً مُنصتاً ينفث الدخان من سيجارته ليصرخ بهنَّ قائلاً: لك إيش بيها، إيش بيها، شب وجاب رفيجتو معاه ع البيت، إيش بيها يعني.

أبي كان وما زال الأكثر مُراعاة لتمرّدي على طقوس العائلة، يفهمني جيداً ويفهم كل نزعات الجنون التي لا تذهب بي سوى نحو التعقّل الشبه مُطلق.

أبي الذي صرخ قائلاً: إيش بيها، هو الآن خارج ذلك الحي الذي لم يبقَ منه وفيه شيء على ما هو، لم يبقَ منه سوى منفضة سجائر يتيمة تشتاق لرجفة يديه على حوافها، مناديل مُخاطية مرمية على عتبات الغُرفة، وزكام مُزمن عَدِمَ علاجه إلا بجرعة تنفّس من هواء ذلك الحي وذات الغرفة التي شربتُ بها صديقتي فنجان قهوةٍ سادة مليء بسكّر الذكرى.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد