كان الباص قد تحرك، إنها السادسة صباحاً، وأغلب العيون شبه مغلقة، ومنها ما هو منهمك بالدراسة، باص الجامعة هذا لله دره كم يحمل من قصص كل مع كل شروق وغروب شمس، إضافة إلى تلك الهموم والذكريات التي تحط رحالها ما ان نركبه وتطير مبتعدة بعد مسير ساعة وربع تقريبا.
دائما ما كنت أمقت جلوسي بعيداً عن مرمى الأفق، وكثيراً ما كنت أكره جاري في الكرسي أن أحجب هذا الأفق عني خشية الشمس أو رغبة في أخذ غفوة، بالله عليك أي عاقل يمنع تسلل الدفئ إليه فجراً، إنه دفء رغم إشعاله للذكريات، إلا أنه يحمل إلى القلب دفئ الشوق وحلاوته اللاذعة وحلاوة الأحلام ومرارة الخيبات.
إنها المرة الأولى التي لا أغرب في أن أطرب أذني بصوت فيروز، لا أعلم السبب، ولكن شيئاً ما شغلني بالنظر في وجوه كل من حولي، ومن على مرمى بصري، لكن لم أنظر قط إلى جارتي كانت كبيرة في 28 على ما يبدو، لا بد أنها تكمل إحدى الدراسات العليا في الجامعة، لم ألحظها إلا عندما تحدثت وهي تنظر عبر النافذة، وكأنها تحدث شخصاً آخر.
"نحن الآن في باص مليء بخمسين قصة، أضيفي قصة السائق لتصبح واحدة وخمسين قصة وهم وخيبة وخذلان وتميز وظلم وقهر، جميعها الآن تسافر معنا، انظري لمن حولك أحدهم عاشق وآخر مشتاق، وثالث أخذ هم الحلم منه كل مأخذ، جميعنا الآن ننظر إلى ذات المنظر وخيوط الشمس ذاتها تتسلل إلينا، لكن جميعنا نراها بذات العين، وهل كل الأشعة المتسربة تلامس الجزء ذاته من أرواحنا؟!
لفتت نظري جملتها الأخيرة وأخذت أتمعن بمن حولي، يبدو أنني لست الوحيدة من يمقت الجلوس بعيداً عن مرمى الأفق، بعيداً عن الذكريات والأحلام فوحدهم من يجلسون بمحاذاة النافذة تحاكي أعينهم الأفق، أما من في الطرف الآخر فبعد أبصارهم عن الأفق لا يثير شذى الذكريات والأحلام في ذاكرتهم بقوة.
ثم أخذت أنظر إلى العيون لعلي أستطيع استراق السمع لمناجاتها الأفق، رأيت أعيناً مبتسمة وأخرى مهمومة وثالثة تاهت، يبدو أنها لا تعلم في أي زاوية، أو ركن من الذكريات والتخبط يجب أن تحط، وأكثر العيون تميزاً هي المليئة بالشغف، شغف الحلم والتميز، ورغم إرهاقها فإنها مليئة بالأمل.
– تبحثين عن قصة؟!
– كيف عرفتِ؟!
– عيناك، أهو حلم؟!
– بل شغب!
– ما الفرق؟!
– الحلم دون شغف مجرد سراب!
حديث عابر باغتتني فيه جارتي، في الحقيقة كنت أبحث بين العيون عن قصة أكتبها، تطرز أجمل أحاديث الأفق، ثم أدركت أننا في كل يوم نحاكي الأفق بقصة جديدة، بهَمّ، بحلم، بشغف، بعشق، وأحياناً بيأس.
– لا تبتعدي كثيراً فنظرتنا من تحدد لون الأفق والحياة!
انتشلتني جارتي من البحث عن ألوان الأفق في العيون وتعجبي من أن لونه يختلف من عين لأخرى، لم تكن صدمتي بمعرفتها بما يجول بخاطري بقدر صدمتي بلون عينيها الذي تدرج من جنح الظلام إلى بياض اللؤلؤ مروراً بألوان الربيع، يبدو أنها تحاكي كل القصص وكل الأماني والخيبات والحكايات.
نحن من نحدد لون الأفق والحياة بنظرتنا، فإذا نظرنا بأمل تلونت بأزهى الألوان وابتسمت لنا، أما إذا نظرنا بيأس وخذلان طغى عليها السواد واكفهر وجهها.
ولا دخل للظروف والأحوال بهذا بتاتاً انظري مثلاً الشاب الذي على يسارك دخل عائلته بسيط، حلمه كبير وشغفه أكبر، وواقعه علقم لكن عينيه تشتعلان أملا وشغفاً، وأما الذي بجانبه توافرت له كل سبل الراحة والرخاء، حلمه لم يباركه الشغف وعيناه حجرتان خاويتان من الحياة مليئتان بالسواد.
في الواقع يا صديقتي نحن من نحدد ونطرز أيامنا، إما بيضاء ربيعية، أو سوداء كجنح الظلام إذا أسدل، ونحن من يجب أن نخلق من الظروف ظروفاً تلائمناً، نحن من نبني أو نهدم الحلم، فنظرتنا وشغفنا وجدنا من يحدد كل شيء.
أما الحياة ما هي إلا روايتك الخاصة، أنت من تخطين حروفها ومن يحدد ما ستكون يوماً، مملة؟ سخيفة؟ ممتعة؟ روتينية؟ مشوقة؟ مليئة بالشغف؟!، أنت وحدك من يحدد فاختاري تفاصيل روايتك بعناية.
توقف الباص وطارت الذكريات والأحلام، ابتعد الأفق، واختفت جارتي، وهبطت إلى الحياة أخط تفاصيل روايتي وأنتقيها بعناية، بحسب وصية الأفق.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.