"ما ضاع حق وراءه أُمٌّ اسمها تالات حمداني"، مات ابنها الأميركي المسلم دفاعاً عن الأميركيين في هجمات 11 سبتمبر/أيلول 2001، فقررت "تصحيح صورة أميركا كلها وليس الإسلام" على حد قولها، فالإسلام كما تعيه وكما عاشه ابنها يعني أن تضحي من أجل الآخرين بغض النظر عن دينهم أو لونهم .
تالات (أو "طلعت" بحسب أصلها الباكستاني) قادت حملة لرد الاعتبار لاسم ابنها الذي ضحى بحياته في هجمات الـ11 من سبتمبر/أيلول التي استهدفت برجي التجارة الدولية بنيويورك، ولكنه اعتبر مشتبهاً فيه بعد الأحداث مباشرة، قبل أن تنجح في مسعاها، وتجعل الأميركيين يعترفون به بطلاً، كما تقود حملة منذ سنوات لإغلاق معسكر غونتانامو، الذي تراه عاراً يجب على الولايات المتحدة الأميركية التخلص منه.
تالات حمداني قالت لـ"عربي بوست"، في ذكرى مرور 15 عاماً على هجمات سبتمبر، ورحيل ابنها أنها ترى احتمالاً كبيراً لنجاح حملتها المطالبة بإغلاق غوانتانامو.
وتضيف: "لقد حقق أوباما الكثير في هذا الصدد رغم العراقيل التي وضعها أمامه الحزب الجمهوري، وقد قام أخيراً بتعيين قاض مسلم للمنصة الفيدرالية، والعداء ضده من الأميركيين ذوي العقلية التي تؤمن بسيادة العنصر الأبيض، كان عاملاً مساعداً في إظهار العنصرية والتمييز العنصري الديني إلى السطح".
وتؤكد أن المرشح الرئاسي دونالد ترامب "عنصري ديماغوجي، متعصب، كاره للنساء، يدافع عن ذهنية تفوق الجنس الأبيض، التي تعد خطراً داهماً يتهدد الولايات المتحدة الأمريكية ووحدتها".
وترى حمداني أن ترامب "لا يعرف شيئاً عن السياسة، ولا رصيد له فيها، وهو يدعم التمييز ضد المسلمين في أمريكا، وبناء الجدران العازلة، ويسخر من ذوي الاحتياجات الخاصة، على العكس من التقاليد الأمريكية الراسخة. أما كلينتون فلها رصيد سياسي طويل. وتجربتها كوزيرة للخارجية تعطيها ميزة لم تتوفر لرئيس آخر مؤخراً. كما أنها تمتاز بشخصية متزنة مقارنة بترامب. ولو وصلت للرئاسة ستجلب المزيد من التسامح داخلياً والاستقرار عالمياً"..
القصة من بدايتها
وقبل 15 عاماً لقي سلمان حمداني مصرعه بعد أن أسرع إلى أبراج التجارة العالمية بنيويورك ليساعد الناجين من هجمات 11 سبتمبر، وقد ورد اسمه ضمن قانون "باتريوت" الشهير كرمز للشجاعة ، ولكن لأنه مسلم مهاجر، اعتبر أولاً في أعقاب الأحداث مباشرة مشتبهاً به حتى تم التأكد من العكس.
ورغم أن الرئيس الأمريكي حينها جورج دبليو بوش سمى سلمان بالاسم في حديثه أمام الكونغرس عن قانون باتريوت، ظهرت عناوين الصحف الأمريكية لتشكك فيه لأنه يحمل اسماً إسلامياً.
وعنونت النيويورك بوست تقريراً عنه في 12أكتوبر/تشرين الأول 2001 بـ" مفقود أم مختبئ – القصة الغامضة لشرطي متدرب في شرطة نيويورك من باكستان"، جاء فيه: "إن شرطة نيويورك تبحث عن أحد متدربيها السابقين، الذي أبلغ عنه أولاً كمفقود في هجمات برجي التجارة، بمذكرة عاجلة تطلب العثور والقبض على الشاب الباكستاني الأصل، وقد شوهد حمداني آخر مرة وبيده القرآن، يغادر منزله في كوينز متوجهاً إلى مقر عمله كباحث مساعد في أحد معامل جامعة روكفلر، لكنه لم يصل إلى عمله أبداً".
وأضافت: "لقد وزعت أسرته أوراقاً تحمل اسمه وصورته، خوفاً من أن يكون الشاب، الذي تلقى تدريباً كفني طوارئ طبية، توجه إلى برج التجارة العالمي للمساعدة وقتل هناك".
لكن المحققين من الشرطة الفيدرالية وشرطة نيويورك، حسب تقرير النيويورك بوست حينها، حققوا مع أفراد أسرته عن غرف الدردشة على الإنترنت التي اعتاد دخولها، وعما إذا كان مسيساً أم لا.
حمداني، درس الكيمياء الحيوية في كلية كوينز، وكان ضمن برنامج تدريبي في شرطة نيويورك لمدة ثلاث سنوات. وقد أصبح "غير نشط" لأنه كان يحتاج للالتحاق بعمل دائم، كما قالت والدته.
ونشرت الصحيفة حينها نقلاً عن مصادر لم تسمها أنه لم يعمل مع شرطة نيويورك منذ إبريل، لكنه كان يحمل بطاقة العضوية، "ما جعل أحد المصادر يقول إن الرجل كان بإمكانه أن يمر أمام أي شخص كما يشاء لأن معه هذه البطاقة".
والدة حمداني، التي أمضت في الولايات المتحدة أكثر من 30 عاماً أنكرت انتماء ولدها للأصولية السياسية أو الدينية، "فيما قال رجال شرطة عند نفق ميدتاون إنهم رأوا شخصاً يشبه حمداني".
وبعد 11 يوماً من نشر هذا التقرير وعدد آخر من تقارير مماثلة لما جاء فيه، أقر الكونغرس الأمريكي قانون باتريوت، منوهاً ببطولة سلمان حمداني.
ذكريات أم
تقول حمداني عن ابنها "لقد ضحى بحياته من أجل مواطنيه الأمريكيين لم يهتم إن كانوا مسلمين أو مسيحيين أو هندوس أو يهود، أو إن كانت أصولهم أمريكية أو صينية أو أفغانية. فقط اندفع لينقذهم".
وتتذكر اليوم المشؤوم قائلة "كنت في المدرسة في ذلك اليوم، ووصلتني الأخبار في العاشرة والنصف صباحاً عندما خرجت من الصف الدراسي وجدت المدرسين يتحدثون عما جرى بأبراج التجارة فلم أصدق واتصلت بالبيت فرد زوجي وقال إن البرجين انهارا وأن سلمان ربما يكون هناك".
وأضافت: "قلت له إنه ليس هناك فهو يعمل في مانهاتن فلا تقلق، وعدت للبيت في الرابعة والنصف، حاولنا الاتصال بهاتفه الجوال لكنه لم يرد. تذكرنا أنه كان قد نسيه قبلها في مكتبه. فانتظرنا أن يتصل بنا وظللنا ننتظر لليوم التالي".
تكمل تالات حمداني الحكاية الحزينة: "في اليوم التالي اتصلت بالمدرسة وأخبرتهم أني لن أحضر لأن ابني لم يعد للبيت، وذهبت إلى مكتبه لأحضر هاتفه الجوال.. كنت في حالة قلق شديد ولا أكف عن البكاء. حاول زملاؤه مساعدتنا.
وكان هناك حارس أمن قال إن له أصدقاء في الـ إف بي أي وسيعطيهم اسم ابننا ليبحثوا عنه، وربما يجدونه إذا كان ما زال يساعد في موقع الهجمات. ثم توجهنا إلى المستشفى لنرى ما إذا كان في قائمة المفقودين لديهم. فلم نجده لا في قائمة المتوفين ولا المصابين".
وتزيد: "ذهبنا إلى البيت مساء ذلك اليوم متعبين للغاية، وبدأنا نشعر بالحقيقة .. لقد حدث له مكروه. في اليوم التالي توجهنا للمركز الذي أقيم لعائلات المفقودين، وسجلنا اسمه، وأخذوا منا عينات أنسجة لتحليل الدي إن إيه. سجلنا اسمه (سال حمداني فقط. فلم نضع اسمه الأول محمد لسبب ما، وانطلقنا نبحث عنه ونوزع أوراقاً عليها صورته، لكن أحداً لم يره. في الأسابيع التالية ذهبنا إلى "غراوند زيرو" وسألنا رجال الإطفاء الذين يعملون بالموقع عنه وأريناهم صورته، لكن بلا فائدة".
صحف تتهم
قررت أسرة حمداني السفر إلى مكة لعمل عمرة والدعاء هناك، "وقبل يوم واحد من سفرنا جاءت إلى بيتنا مجموعة من الصحافيين من نيويورك بوست وديلي نيوز وغيرها، سألتهم ما الذي جاء بكم فقالوا إن منشوراً به صورة ابني عندما كان متدرباً بالشرطة توزعه شرطة نيويورك وتطلب أن يتصل بها من يعرف عن صاحب الصورة شيئاً. كان هذا بعد الأحداث بشهر كامل، وسألونا بعض الأسئلة وغادروا".
وفي اليوم التالي سافرت الأسرة إلى مكة، "وعندما وصلنا هناك اتصلت إحدى شقيقاتي وأخبرتني بعناوين الصحف التي نشرت عن ابني "مفقود أم مختبئ"، ومن بين التفاصيل أيضاً أنه شوهد في هذا اليوم صباحاً قرب نفق ميدتاون، وأنه ربما لم يكن مفقوداً وإنما يختبئ لأنه أحد الإرهابيين".
"قال الرئيس"
"كتبنا رسالة إلى الرئيس بوش نطلب منه المساعدة في العثور على ابننا" تكمل حمداني، "وأن يخبرونا إذا كان مقبوضاً عليه أو شيء من هذا، فقط يخبرونا. ولم نتلق رداً إلا في يناير بأنه تم تحويل طلبنا للإف بي آي".
وبعدها بأسبوع، "وصلتنا رسالة من المباحث الفيدرالية بأنهم يتحرون عن الأشخاص الذين ارتكبوا جريمة، وطلبوا مني أن أخبرهم إن كان ابني قد ارتكب جريمة.. في ذلك اليوم اتصلنا بكل السجون لنسأل عنه بلا جدوى!".
وبقيت تالات تعيش على أمل أن ابنها سيعود ذات يوم لأن اسمه لم يظهر في أي من قوائم المتوفين، إلى أن كان يوم 20 مارس/آذار، عندما جاء إلى بيتها مساءً اثنان من رجال الشرطة وأخبروها بوفاته، فقد تمَّ التعرف على بقايا جثته – التي تشظت إلى ٣٤ قطعة – وأعطونا بنطلونه من نوع الجينز وحزامه.
وفي يوم الجمعة الخامس من إبريل/نيسان أقامت العائلة لفقيدها جنازة في المسجد الذي اعتاد أن يصلي الجمعة فيه بمانهاتن.
تغيير الأسماء
بعدها لسنوات كانت الظروف صعبة بالنسبة لتالات وأسرتها كما لغالبية الأسر المسلمة في أمريكا، "أبناء شقيقاتي وأشقائي غيروا أسماءهم فمحمد صار ميكي، وأرمين أصبحت إيمي، وهكذا.. فقد كانوا يخشون أن يوصموا بالإرهاب لأنهم مسلمون".
وواجهت الأم الأمر في مدرستها أيضاً "حيث أعطيت تلامذتي تدريباً أسألهم فيه كيف تعرفون الإرهابي، وكانت الكلمة التي ترددت بقوة في الصف كله هي "مسلم". ثم طلبت منهم أن يعرفوا ما هو الإسلام، لتأتي الكلمة التالية "بن لادن"، لأجد نفسي أدافع عن نفسي وأسرتي وعقيدتي ومجتمعي. وبدأت معركة إقناع الجميع أن الإسلام لا يعني الإرهاب".
نضال لردّ الاعتبار
لسنوات ظل اسم محمد سلمان حمداني غائباً عن النصب التذكاري لضحايا 11 سبتمبر، ولسنوات أطول ظل غائباً عن لوحة الشرف التي أقامتها شرطة نيويورك لأول من اندفعوا للإنقاذ وضحوا بأرواحهم في تلك الهجمات.
سنوات من الكفاح لم تهدأ خلالها تالات حتى حصلت لذكرى فقيدها على حقه في التكريم والذي صار أيسر وأقوى في عهد أوباما، حيث نقش اسمه في كل لوحات الشرف.
وفي 2002 نجحت الأم في أن تجعل كلية كوينز التي كان ابنها يدرس الطب فيها تخصص منحة دراسية باسم محمد سلمان حمداني تخليداً لذكراه وذكرى حلمه بدراسة الطب
.
وفي 2014، احتفلت أسرة حمداني بإطلاق اسم ابنها على أحد شوارع نيويورك.
ومع الأيام تحولت تالات إلى ناشطة حقوقية تدافع عن حقوق المسلمين في الولايات المتحدة الأميركية كمواطنة أميركية تسعى لأن تجعل بلدها بصورة أفضل.
وتبنت الأمر وسرعان ما انخرطت في حركة معارضة حرب العراق، قضية إغلاق معسكر غوانتانامو، وهو الملف الذي أوشكت جهودها فيه أن تؤتي ثمارها.
وفي 2010 قادت حمداني، حسب ما حكته لـ"عربي بوست" حملة لدعم بناء مسجد في موقع غراوند زيرو، لأنها شعرت أن المسلمين مازالوا يدفعون فاتورة هجمات سبتمبر ظلماً، رغم أن مسلمين مثل ابنها ماتوا في تلك الهجمات.
دفاعاً عن المسلمين
"لماذا علينا أن ندفع الثمن؟ لقد مات مسلمون أميركيون في هذه الأحداث مثل غيرهم. لقد أسست أميركا على الحرية الدينية، ومعارضة بناء مسجد شيء غير أخلاقي وغير أميركي".
وفي نوفمبر 2015، كتبت حمداني في صحيفة نيويورك ديلي رداً على حديث مرشح الرئاسة الجمهوري دونالد ترامب متهماً المسلمين بأنهم خطر على الأمن القومي الأميركي، ومتعهداً بجعلهم يسجلون في سجلات خاصة وحمل بطاقات هوية خاصة.
تقول حمداني "إن الرئيس الأميركي مثله مثل أعضاء الكونغرس والقوات المسلحة يقسمون على احترام الدستور والقانون. وحرية الاعتقاد والتفكير والتعبير في القلب من هويتنا الأميركية ودستورنا."
وتكمل حمداني: "في 11 سبتمبر/أيلول 2001، فقدت ابني محمد سلمان حمداني في عمر ٢٣ عاماً، لأنه قرر أن يسرع إلى موقع الهجمات ليحاول إنقاذ مواطنيه الأميركيين. وهو لم يميز في تضحيته تلك بين المسلمين وغير المسلمين .. بل اتبع قلبه وإنسانيته".
وأضافت أنه "على العكس نجد في أنحاء أميركا اليوم، سياسيين يستغلون مآسي عمليات باريس وروسيا وبيروت، لمكاسب شخصية أنانية. ويلعبون على وتر الخوف مستغلين الجهل بحقيقة الإسلام لشحن الأميركيين بالعداء ضد المسلمين".
"كان ابني نموذجاً مشرفاً لمعنى أن تكون إنساناً"، تقول حمداني وهي تتذكر قرار ابنها التوجه لموقع هجمات سبتمبر قبل 15 عاماً، "لقد ذهب إلى هناك لينقذ الإنسانية دون أن يفكر في دين أو لون أو عرق.. ابني سلمان كان جزءاً مني، وكل نفس أتنفسه يذكرني به.. ومن أجله هو وغيره سأظل قوية لأدافع على قيمنا الأميركية الأصيلة، إذا كانت أميركا تريد أن تكون قائدة العالم بحق، فعلينا أن ننجح في حربنا ضد المتطرفين ولا نتخلى عن إيماننا بالحرية والعدالة للجميع."