أن تعيش في القُدس، يعني أن تستيقظ صباحاً، تسير في شوارع البلدة القديمة، تشّم رائحة الكعك المقدسي، تقطع الإشارة الضوئية وصوت فيروز يصدّح بأغنية "وطني" أو حتى تدمج إحساسها المفعم بعاطفتها بغنائها "بكتب اسمك يا حبيبي"، أن ترى كل الوجوه التي قد تعودّت عليها، من وجه شرطيٍّ مُحتّل لا يغير ياقته ولا بذلته لكنّه يغير ما هو أقسى، إنه يغيّر تعابير وجهه وفقاً للحالة الأمنية التي يريد أن يفرضها على السكّان.
الباعة المتجولون تختلف وجوههم الصباحية عمّا هي في المساء، المحلات التجارية التي تفتح أغلبها في نفس الوقت، الفلّاحات التي تصر كل واحدة منهن في العيش بشكل منفرد حتى تستطيع بيدّها التي شدّها العُمر ولفّتها التجاعيد على أن تكسب قوت يومها وحدّها، رائحة الفلافل الذي اعتاد الاحتلال أن يعترف بأنه من ثقافته وأقول في نفسي: "من سرق أرضاً ماذا يُضيره أن يسرق أكلة شعبية أو حتى ثقافة؟".
أن تعيش في القُدس يعني أن تُراقب الأقصى بقلبك وجسدك، أن يأكل القهر عينيك الذي ترى المستوطنين يقتحمونه، أن تعيش لأجل قضية، أن تراقب أصناف الشباب يذهبون ويجيئون إليها وفي قلوبهم ألف همةٍ لقتل ألف صهيوني دون استعدادٍ للتراجُع، أن تتابع حالة الأسرى الصحية وتناشد أمام السفارات بطلب إنقاذهم، أن تعيش في القُدس يعني أن لا شيء قادر على إسكاتك، خنوعك، لا شيء.
أن تعيش في القُدس يعني أن تكون ملتقى أصدقائك حينما يأتون لزيارة المسجد الأقصى، أو حتى كنيسة القيامة، الصعود لسور القدس معاً والهتاف معاً.
أن تعيش في القُدس يعني أن كل مرة تسير في شوارعها، ترى معالمها كأنها المرّة الأولى، كأن الجمال هُنا يقف دون وصفٍ لأن الكلمات لا تسعه، أن تعيش في القُدس يعني أن تسرح في خيالك عندما تواجه معماراً للمرة الألف وتراه كأنها المرة الأُولى، أن تعيش في القُدس يعني أنك لا تعرف متى هي المرة الأخيرة التي تسبق اعتقالك، استشهادك أو حتى إقصائك عن المدينة التي تُحب، عن المدينة التي تقدّسها وتقبّلها عيناك ألف مرة في كل صباحٍ ومساء.
أن تعيش في القُدس يعني أن ترى أشخاصاً من ثقافات مختلفة من أمم لا تتداخل معك وتتقبلها، تتقبل اختلافها لمجرد أن تجمعكم سماء واحدة وهي سماء القُدس، سماء القدس لا تنكر أصحابها كما لا تنكر زوارّها، لكنها تُنكر تلك الطائرات وأصواتها التي ينام عليها أهل القُدس، أن تعيش في القدس يعني أن تعرف الحالة الأمنية من صوت الطائرات، سيارات الإسعاف، تأهّب شرطة الاحتلال، أن تكون مضطراً لأن تتعامل مع كل شيءٍ صهيوني دون إرادتك.
أن تعيش في القُدس يعني أن تُدرك بأن هذهِ الأرض التي ولدّتنا هُنا تريد لنا أن نحيّا فيها، تريد ابتلاعنا كما يبتلع شجر الزيتون هذه الدّماء.
أن تعيش في القُدس يعني أن لا تغفو عن تتابع النكبات عليها، عن حقها في أن تبقى شامخة كشجرة صنوبر، أن تعيش في القُدس يعني أن تصمُد أطول فترة ممكنة رغم سخونة الجو، رغم دفعك للكثير من الضرائب، رغم الغلاء المعيشي، رُغم تكدّس الديون على قلبك؛ لأنها فقط بكلمة واحدة "القُدس".
أن تعيش في القُدس يعني أن تضيق بك الدنيا فتذهب إلى الأقصى، تمشي في ساحاته، في ساحات البلدة القديمة، حاراتها، شوارعها، تنسى وجعك، ألمك، تعود إلى بيتك كطفلٍ صغير قد شُفيت جراحه.
أن تعيش في القدس يعني أن تصبح كل يوم على خبر شهيد، خبر اعتقال لشابٍ ما، أن ترى التفتيش بأُمّ عينيك لشباب في مقتبل العُمر حينما يذهبون في صباح اليوم لممارسة أعمالهم الروتينية اليومية.
أن تعيش في القُدس يعني أن تنام وفي قلبك ألف أمنية أن تكون هذه الأرض محط الصراعات هي نفسها محطّة للقاءات السريعة، الطويلة، الجميلة، لأن تكون هذه الأرض قابلة للتناقضات في كُل أشكالها وألوانها.
حتى تعيش في القُدس يجب أن تعيش القُدس فيك مُسبقاً.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.