أخلاق مستعارة

وكغيرها، ولكن بثباتٍ وجماهيرية أكثر، تجاوزت هذه التجارة الحدود، كما تجاوزت آلامَنا وموتنا اليوميّ ومصائرنا التي قد تنتهي إلى شبه عدم تائه بلا وطن.. فما كان من داعيةٍ وشيخٍ معروف إلا أن رأى في تشردنا وخراب بيوتنا فرصةً سانحةً لرؤية أوروبا الإسلامية!.. فهل من تجارةٍ أكثرَ رواجاً؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/10 الساعة 05:09 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/10 الساعة 05:09 بتوقيت غرينتش

في الحرب، ومع سقوط القذائف وسقوف البيوت على رؤوس الآمنين، ومع سقوط حق الناس وقدرتهم على الحفاظ على ضروراتهم من حياةٍ وعِرض ومال ودين.. تسقط كل الأشياء التي تنتمي لمرحلة ما قبل هذا السقوط شبه الكليّ. إلا أن الآثار الناجمة عن "سقوط" الأخلاق، تبدو أكثر بروزاً وأجدر بالملاحظة والتنويه والمتابعة، ومن ثم يأتي الاستثمار السياسيّ والتنظيريّ، وصولاً إلى اتهام فئة مُستهدفة أو أمة بأكملها بالسقوط الأخلاقيّ، ما يبرّر الدعوة إلى فرض الوصاية عليها بغية إعادة تأهيلها لتتمكن من الانخراط مجدداً في بِنى العالم المتمدن..

وفي الثورة السورية والحرب التي فُرضت على السوريين، كاد الفرقاء كلهم، داخليين وخارجيين، يتفقون -على غير العادة- على مصطلح واحد يختصر الإشارة إلى الأزمة الأخلاقية الناشئة عن الحرب، فمصطلح "تُجّار الأزمة" يصلح للاستخدام والتعبير عن كلّ مستثمر فيها، من بائع الخضار المحليّ الذي يقيس سعر منتجه بالدولار صعوداً وهبوطاً، حتى وإن كان من إنتاج حقله، إلى رئيس أكبر دولة ضالعة في إدارة الملف السوري، وبين ذلك آلاف الحالات التي تغطي كل مساحات حياة الناس، وموتهم أيضاً.

تجارة السلاح والقوت

تتنكّب وسائل إعلام كثيرة المتاعب، وتُعرّض أمن صحفيّيها للخطر لتعدّ تقارير صحفية عن تجارة السلاح في البلد الذي لا رقيب فيه ولا فئة ثابتة على قطعة أرض تستطيع أن تسنَّ قوانين وتفرض تطبيقها.. وإن تجارة السلاح في بلدان الحرب وظهور محالّ و"بسطات" على الأرصفة لعرضها وبيعها، يبدو أمراً عادياً أكثر من كونه مُستغرباً، ومع حرمة هذه التجارة في القانون الدوليّ، وشبهة حرمتها في الأديان أيضاً مع أخذ بعض الاعتبارات الشرعية هنا في الحسبان، إلا أنها تبقى، دائماً.

وبغض النظر عن الدولة التي تقع فيها الحرب، ودينها، وتحضّر أهلها من عدمه، تبقى هي أول تجارة تظهر للعيان بعد انطلاق أول رصاصة معلنة بدء فصل الحرب. وهذا ما كان في سوريا، كحالة عادية مسبوقة ولن تكون الأخيرة، ففي أوضاع كهذه لن يتوقع أحد ازدهار سوق "البوشار".. ثم إن هذه "البسطات" الفقيرة ما هي إلا "جرزة" صغيرة في حقل الموت المتلاطم الذي تُقام الحروب وتُدار بعناية لترويج منتجه.

وكذا تُستخدم الإغاثة طرفاً في الحرب، فلها هي أيضاً تُجّارها، وطرق الفساد التي يجب أن تسلكها قبل أن تسلك طريقها إلى أفواه الأطفال الجائعين. فقبل أن نربط ملفات الإغاثة بفساد بعض الناشطين المحليين القائمين عليها، يجدر بنا أن ننظر من أين أتت، ولماذا، وما توجهات الدولة أو المنظمة المانحة، ولماذا اختارت هؤلاء الأشخاص تحديداً ليكونوا قائمين عليها؟..

ففي الحرب لا شيء بريء، ولا شيء خارج إمكانية وضرورة التوظيف، وهذا من شأنه، محليّاً، أن يرفع من هوى به القدر، وأن يحطّ من شأن آخرين كرام، فيتخبط المجتمع وتختلط الصور وتتبدل المقامات، وما الفوضى تلك إلا أحد تجليات الحرب ومقدمة لبروز مجتمع جديد لن يكون، غالباً، قائماً على تفوق أخلاقي أو جدارة علمية وسياسية لقياداته، بل يعكس نتائج الحرب، فيتقدم صائدو اللحظة الصفوف، قبل أن يتواروا بعد رسوخ الاستقرار، وإلى الأبد؛ لأنهم نتاج فوضى لم تعد موجودة ولا حاكمة.

تجارة الدين

وهي الأكثر رواجاً وإقبالاً وجدوى، وهي الضرورية في كثير من المجتمعات، ونحن من ضمنها، للتغطية على كل شيء وتسويغ كل شيء وشرعنته، كما أنها التجارة الأقدم عهداً، فمنذ ألف ومائة عام تقريباً أشار "المتنبي" إلى حضورها وتكريسها في المجتمع آنذاك:
هل غاية الدين أن تحفوا شواربكم ** يا أمةً ضحكتْ من جهلها الأممُ

والقول يحمل إشارة واضحة إلى تقديم الشكل والهيئة على المضمون، فيما يُعتبر غشاً وتكريساً لشخصية تحمل نقيضها في داخلها.

وكان الفيلسوف البصير، أبو العلاء المعري، أكثر وضوحاً وتثبيتاً لحالة التجارة تلك، حتى كاد يكون مؤرّخاً لها، فكتب الكثير في نثرياته ورسائله ولزومياته عن الانفصال الفاضح ما بين النظرية السامية والتطبيق الخبيث، حتى غدا الناس يستخدمون الدين كسنارة صيد، يقول:
فأميرهمْ نال الإمارة بالخنا ** وتقيّهمْ بصلاته يتصيّدُ

ومن هذه الحقيقة، وقساوة المشهد في الداخل السوريّ، وضياع البوصلة، وتعدّد المناهج والدعاة المُرهِّبين والمُرغِّبين، نرى الفوضى تعمّ القيم الدينية أيضاً، فالولاءات تتغير بتغيّر القوة المسيطرة، ولكلٍّ آياته وبيّناته، ومعظم الناس ينشدون الأمان وحسب.

وآخرون يتاجرون ويبحثون من خلال باب "التوبة" عن مداخل عريضة إلى القيادة والغِنى والمجد، فمن صاحب خمّارة إلى عضو في جماعة جهادية، ومن آكلِ رِبا إلى شرعيّ، ومن مُخبرٍ إلى صاحب معهد علوم للقرآن!..

وكغيرها، ولكن بثباتٍ وجماهيرية أكثر، تجاوزت هذه التجارة الحدود، كما تجاوزت آلامَنا وموتنا اليوميّ ومصائرنا التي قد تنتهي إلى شبه عدم تائه بلا وطن.. فما كان من داعيةٍ وشيخٍ معروف إلا أن رأى في تشردنا وخراب بيوتنا فرصةً سانحةً لرؤية أوروبا الإسلامية!.. فهل من تجارةٍ أكثرَ رواجاً؟

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد