عفواً أيها التاريخ: هلَّا حذفت جملة “أحسَنَ إليها”

عفواً أيها المؤرخون، هلّا أعدتم جملتكم الأخيرة "أحسن إليها"! برأيكم تكبيلها بالذهب إحسان لها؟ لقد كانت مكبلة، عارية، مهزومة، أي قيمة للذهب أمام هزيمة البلاد؟! أي شعور حمله قلبها الصغير وهي منكسة الرأس بين شعبها المهزوم؟ وآسرها خلفها مرفوع الرأس فقد سجل التاريخ اسمه كآسر أسطورة الشام، بل الشرق أجمع، إحدى أندر النساء في عصرها حتى عصرنا الحاضر.. ويقال عنه محسناً؟

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/08 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/08 الساعة 08:02 بتوقيت غرينتش

هل أنت تدمرية؟

فاجأتني الطفلة التي لم تتجاوز العاشرة من العمر بهذا السؤال، كانت بشرتها حنطية اللون وقد لفحتها الشمس مما أعطاها نضارة مميزة، وجديلة طويلة كستنائية اللون تتمايل على ظهر منتصب، ووقفة فيها الكثير من الشمم. ببساطة كانت طفلة تدمرية، كنت قد وصلت للتو لاستراحة تدمر قادمة من بلدتي إلى دمشق بعد رحلة دامت لأكثر من سبع ساعات، وأنا أبحث عن كأس شاي ذاك الصباح ليوقظني من حالة النوم المتقطع طوال الليل، فإذ بي أتفاجأ بهذه الطفلة الحاملة ربطة خبز على رأسها وهي ما زالت بثياب النوم وحذاء مطاطي لم يقلل من ثقتها بنفسها.

كانت تنظر في عيني منتظرة الجواب، فكرت للحظة أن أكون تدمرية، ومرت زنوبيا أمام عيني تمشي باعتزاز ورأس مرفوع أمام جيشها، لأجاوب الصغيرة مع ابتسامة عريضة راضية:
– لِمَ لا؟

لأستقل الباص وألتحق برحلتي، وأنا أتخيل زنوبيا وأتخيل نفسي لو كنت في زمانها، زمان المدن المنحوتة من الحجر، زمان القلاع ذات الأبواب الضخمة المرصعة بالياقوت والزمرد، زمان الواحات الغنّاء، والجنان والطيور الملونة، والهدهد. ولم يعكر صفو أفكاري سوى الصورة التي كان ينتهي بها درس التاريخ، زنوبيا المقيدة بالسلاسل الذهبية وهي تساق إلى روما أسيرة بيد الإمبراطور "أورليانوس" الذي حصد الإعجاب بتصرفه الراقي، حيث قام بتقييده زنوبيا بالسلاسل الذهبية مصطحباً إياها إلى روما، طبعاً كانت هذه عادة كيلا يستخف عامة الشعب بالأباطرة.

أما أنا فكنت أشعر بالحزن على زنوبيا فالقيود هي قيود بغض النظر عن معدنها، كنت أتخيلها عارية مكسورة وهي تودع شعبها ومملكتها التي تمنت لها الانفصال عن الدولة الغربية، لا أعرف إن كان الكثيرون يعلمون جريمتها التي أودت بملكها وجعلتها رمزاً لأغلى الأسرى عبر التاريخ، إنها الانفصال عن روما، لِمَ لا والشام أرض الخيرات وتدمر درتها، ولا حاجة لها للغرب، بل الغرب من يحتاجها.

فزنوبيا حسب كتب التاريخ:
"هي زنوبيا اسمها – batzabbai – الآرامية (240 – 274م) تلقت علومها في الإسكندرية، كانت ذات شخصية قوية وطموحة. قادت مع زوجها أذينة عصياناً على الإمبراطورية الرومانية، تمكنا خلاله من السيطرة على معظم سوريا، وقادت المملكة التدمرية بعد مقتل زوجها لغزو آسيا الصغرى ومصر لفترة وجيزة قبل أن يهزمها (أورليانوس) بعد معارك ضارية، ويقوم بأسرها بعد تحصنها بالقرب من نهر الفرات، فقام بقتل كبار قادتها ومستشاريها و(أحسن إليها)؛ حيث أخذها معه إلى روما مكبلة بالسلاسل الذهبية".

عفواً أيها المؤرخون، هلّا أعدتم جملتكم الأخيرة "أحسن إليها"! برأيكم تكبيلها بالذهب إحسان لها؟ لقد كانت مكبلة، عارية، مهزومة، أي قيمة للذهب أمام هزيمة البلاد؟! أي شعور حمله قلبها الصغير وهي منكسة الرأس بين شعبها المهزوم؟ وآسرها خلفها مرفوع الرأس فقد سجل التاريخ اسمه كآسر أسطورة الشام، بل الشرق أجمع، إحدى أندر النساء في عصرها حتى عصرنا الحاضر.. ويقال عنه محسناً؟

وهكذا اقتيدت زنوبيا إلى روما تاركة خلفها الآغورا "السوق التجارية"، والمسرح، ومجلس الشيوخ، ومعبد بل، لتمر خلال قوس النصر في رحلة اللاعودة، فيقال إنها عاشت في إحدى ضواحي روما وماتت بعد فترة قصيرة في ظروف غامضة؛ لتعطي لنهاية الرواية التاريخية عبقاً رمادياً.

وتبقى الصورة الأكثر ألماً في الذاكرة الإنسانية لامرأة كانت تطمح إلى أن تحكم العالم؛ لتنتهي مكبَّلة بالسلاسل الذهبية.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد