لحظة الاحتضار.. وما أدراك ما هي!
الأب راقد على فراشه، ينظر إلى السقف وجفناه يتساقطان، الخطوط الفاصلة بين عالمين على وشك التلاشي، تراخت لحيته البيضاء على صدره تهيئة له لملبسه الأبيض في حياته الجديدة.
جلس الابن إلى جوار أبيه في حالة لا يستطيع فهمها جيداً، المُفتَرض أن يحزن ويأسى على الفراق، ولكن قلبه لم ينفعل كثيراً، بل ظل على حالته الآلية من القبض والبسط تاركاً إياه في منطقة اللاشعور.
بابا أنت كويس.. شكلك تعبان قوي.. أنا مش عارف ليه مصمم إني ما أجبش دكتور.
لم يعد فى الوقت الكثير يا ولدي.. لن يجدِ الطبيب في شيئاً، فما قضاه الله ليس بمردود.
"بدا على الابن عدم الفهم".
يا ولدي، اعلم أنك وُلدت في زمن غير زماننا، زمن غزت فيه الشوارع الأسفلتية قريتنا الصغيرة ولم يعد مثل الأرض عِرض يُكترث إليه هذه الأيام، تسارع معظم أهل القرية لبيع أراضيهم؛ ليُبنَى فوق أطلالها العمارات الشاهقة، فيدفن تاريخنا تحت طبقة سميكة من الزفت الأسود.
"ارتسمت علامات استفهام على وجه الابن مشربة بعدم الموافقة على ما يقوله الأب".
بس يا بابا الناس عايشة ومبسوطة ومحدش ناقصه حاجة وكل البلد….
"مقاطعاً بحشرجة" ليس هذا وقت الجدل فيما مضى وما كان، أنصت إليَّ يا ولدي لعلك تعقل ما أقول فتنجو بنفسك وذريتك من بعدك.
تحسست أنامل الأب دُرج الكوميدينو الخشبي بجواره؛ فهي تعرف بُغيتها جيداً.
إيه ده يا بابا؟!
"موجهاً إليه الكيس البلاستيك الأسود" هذا سر نجاتك أنت وأولادك من بعدي، هذه سفينة نوح التي ستعصمك من الهلاك أنت ومن يخلفك.
"آخذاً الكيس من يد أبيه ومسرعاً في فض مكنونه بشهوة الفضول".
إيه ده يابا "بخيبة أمل" دية شوية بذور!
نعم يا ولدي هذه بذور الحياة، بذور شجر الجوافة، غذاء قريتنا لقرون مضت، بذور العزة والكرامة التي أبقتنا لا نطأطئ رؤوسنا ولا ننحي إلا لله طيلة حياتنا.
يابا بس دي محتاجة زراعة ومجهود ياما، وكمان مش هعرف كده أبيع أرضنا، يابا دي دخلت كردون المباني وهتيجيب فلوس متلتلة، ونعيش مبسوطين وأصحاب فلوس، وبعدين يابا أنا مش بعرف أزرع أنت ناسي ولّا إيه!
يا ولدي أمر الزراعة يسير، "موجهاً سبابته إلى الدولاب أمامه"، لقد فطنت لمثل هذا اليوم حينما استحال خضار الأرض إلى سواد الأسفلت، ودونت طرق الزراعة وكيفية الاعتناء بالشجر حتى ينتج الثمر.
بس يابا……………………………….
"مقاطعاً بأنفاس سريعة متعاقبة"، قلت لك لا وقت للجدال، وتذكر أن البوار عوار، وأن تجريف الأرض يورث النفس ذلاً، وما جدوى امتلاك الأموال وأنت مُهَان.
لم يستطِع الجدال مع أبيه برغم عدم اقتناعه كلية بما يقول. تصاعدت أنفاسه سريعاً لتبتلع أية محاولة للحجاج.
ت..ت..تذ..كرررر يا ولدي.
أبوياااااااااا.
أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله.
اللهم بلغت اللهم فاشهد.
وتلا قوله تعالى: "يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ".
ثم فُتحت بوابة العالم الآخر فأُذن للسر الإلهي بالخروج من حدود الحياة الضيقة.
وبكى الابن وفي يده كيس به بذور الجوافة، ومن حوله وصية تحوطه وتكبل شهوته المتطلعة إلى المال.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.