الصراع بين الإنسان والطبيعة.. “رواية العجوز والبحر” نموذجاً

الرواية حافز على التصميم والمثابرة، ويتجلى ذلك في عودة الشيخ سالماً بعد معركة شرسة مع القروش التي التهمت سمكته الضخمة التي سيطر عليها بعد كفاح مرير.. ولكن كل ذلك لم يفقده ثقته بنفسه، وعاد بالهيكل العظمي للسمكة وساماً استقبله الجميع بكل إكبار وتقدير.

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/07 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/07 الساعة 04:21 بتوقيت غرينتش

الأدب بصفته متعة وضرورة فذلك لأنه يجمع بين العذوبة والفائدة كما يعتبر سلاحاً إضافياً في الكفاح ضد قوى الطبيعة، وتعتبر رواية الأديب الأميركي الشهير أرنست همنغواي من أجمل الأعمال الروائية التي صورت الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة.

البحر ذلك العالم الساحر والميتافيزيقيا الزرقاء الرائعة وهو يغدو بوسعه اللامتناهي والممتد بمثابة الرفاه الروحي مِن كل القلق والتوترات الأرضية؛ حيث تستقر المشاعر وتهيج بسماع هدير الماء، وطالما تخاطب البحر لتحكي همومها وترسم أحلامها علَّه ينقلها إلى أماكن أخرى، وصورت عدة نصوص أدبية ولوحات فنية والعجوز والبحر، تلك الملحمة الإنسانية الرائعة التي تدور حول الصراع الدائر بين العجوز وأسماك القرش.

الرواية من أجمل الروايات التي تصور الصراع بين الإنسان وقوى الطبيعة جسَّدها في بطل الرواية العجوز "سانتياغو" مع أسماك القرش المتوحشة.

حين تقرأ الرواية التي تتميز بخبرات واقعية بعالم البحر، وتظهر لك قوة الإنسان وإصراره وعزمه على نيل أهدافه والوصول إلى ما يصبو إليه وامكانية انتصاره على قوى الشر والطبيعة وفقاً لمقولته المشهورة "الإنسان يمكن هزيمته، لكن لا يمكن قهره".

قصة العجوز والبحر تحكي لنا قصة الهزيمة المادية والنصر المعنوي، قصة الحياة والموت، قصة الصراع مع البحر، كأنها الحياة وما تمتلئ به من مصاعب، فسانتياغو الشيخ الكبير في السن مصرّ على تحقيق هدفه وصيد السمك، والعودة بالسمك، والكفاح حتى آخر العمر، في هذه الرحلـة يقول لنا همنغواي إن قدرة الإنسان ليس لها حدود، وعندما يصر على شيء فلا بد أن يصل إليه.

فكرة الرواية ونسيجها يرتكزان على حدث واحد غير معقد يتمثل في حياة صياد أسماك عجوز يدعى سانتياغو، بالإضافة إلى الصبي مانولين المعجب به، وقد رسم همنغواي هاتين الشخصيتين بعمق.

وملخص الرواية التي تدور أحداثها حول صراع مرير بين العجوز وأسماك القرش والسمكة الجبارة، قد جمعت بين العذوبة والفائدة، الصياد سانتياغو لم يظفر بأي سمكة طوال أربعة وثمانين يوماً، وقد راوده الأمل في ذلك اليوم بأن الحظَّ سيعود ويطرق بابه ثانية، فراح يضرب بمجدافَيه في الماء بنشاط، حتى أوغل في البحر عاقداً العزم على الاصطياد في مكان بعيد لم يصل إليه من قبل، وبعيداً عن المنطقة التي اعتاد غيره من الصيادين كسب رزقهم فيها، إنه يبحث عن اصطياد سمكة ضخمة، وإذا تحقق ذلك فسيعيد إليه كبرياءه كرجل.

تعلقت بخطافه سمكة ضخمة من نوع (المرلين) التي تمضي قدماً في البحر صوب الشمال والشرق، وهي تسحب المركب وراءها، ولا تصعد السمكة إلى سطح الماء، ويستطيع سانتياغو من حركة المركب السريعة معرفة نوع السمكة التي ظفر بها. يمضي يومان تصعد السمكة بعدهما إلى سطح الماء، وتقفز خارجه في محاول للتخلص من الخطاف وإلقائه بعيداً عن فمها، ثم يدركها التعب في اليوم الثالث فتشرع في إدارة المركب في حركة دائرية، يتمكن سانتياغو من جذب السمكة لتصبح قريبة من المركب.

مع كبر سنه ووحدته وغربته التي عاشها وحيداً في ذلك الكوخ على جانب البحر، والآلام التي سببها جر الحبل وشده في المعركة (معركة الموت والحياة) يقوم سانتياغو بجمع قواه وتصميمه وتاريخه البحري ويطعن بحربته السمكة.. بحربة الموت يطعن طعنة الموت محققاً الانتصار في معركة رهيبة حاولت فيها السمكة أن تصرعه فغمرت دماؤها الحمراء مياه البحر الزرقاء الداكنة، لكن الصراع مع قوى الطبيعة لا ينتهي بانتصار سانتياغو على سمكته الكبيرة، وإنما مع أسماك القرش المتوحشة التي تدافعت باتجاه السمكة وتجمعت حولها، وهي تنزف دماً، وقامت تلك الأسماك المتوحشة بمطاردة السمكة المشدودة إلى الزورق.

وبدأت بذلك معركة مطاردة جديدة بين العجوز الذي حصل بعد جهد وعناء كبيرين على السمكة، فجاءت تلك الأسماك لتجبر العجوز على أن يقاتل دفاعاً عن سمكته، تنهش الأسماك المتوحشة في لحم السمكة وتهدد مصير الزورق ومصير العجوز، الذي يحافظ على صفاء ذهنه ويأخذ بالتفكير والابتكار، حتى ينجح في استخدام ما تبقى له من سلاح من سكين ومجداف؛ ليصنع منهما حربة يسددها إلى جسم القرش ورأسه في ضربات متتالية حتى يحطمها، ولكن بعد أن تنهش جحافل أسماك القرش السمكة؛ لتنتهي السمكة بالكامل بين أنياب القرش الحادة؛ لتزداد معاناة العجوز ويعاني مرارة الهزيمة.

الرواية تعكس وجهة نظر كاتبها، فهي تعترف بوجود الأذى والمصائب والكوارث وتقلب الظروف التي يصعب تعليلها أو التنبؤ بها (وهي هنا أسماك القرش التي أكلت السمكة) وبرغم ذلك، فإن الكاتب يقدر الطاقة الكامنة في الجنس البشري والمشاركة بين الإنسان والطبيعة، فسانتياغو رغم أنه يريد قتل السمكة، فإنه يشعر نحوها بالإعجاب، إنه رباط من الحب والاحترام بين خصمين جديرين بالاحترام، والصراع بين العجوز والسمكة كان مباراة عادلة تثير الإعجاب، لكن القوة الإنسانية المتمثلة بالقوة العقلية والتصميم وحب المقاومة والاستمرار تتجلى بها حتى الوصول إلى ما يروم إليه؛ لتحقيق الرفاه والتقدم للحياة الإنسانية.

وحين كان يستعد للراحة بعد عودته من رحلته المضنية الشاقة، يقول له الغلام: يجب أن تسترد عافيتك سريعاً فهناك الكثير الذي أستطيع أن أتعلّمه، ويمكنك أن تعلمني كل شيء، فهذا الغلام الذي أحضر الطعام والدواء إلى سانتياغو لم يفقد إيمانه بمكانة الصياد ومنزلته الرفيعة كصياد، إن الصبي هو حلقة ربط بين الأجيال، وهو الأمل في استمرار الحياة، وحاجة الكبير إلى الصغير، والصغير إلى الكبير، خاصة إذا عرفنا أن همنغواي قد كتب هذه الرواية وهو رجل عجوز في آخر مراحل حياته.

قد يهلك الرجل دون أن يهزم؛ لذا يقول العجوز عن خبراته وقوة عقله: ينبغي لي أن أفكر؛ لأن التفكير هو كل ما يبقي لي القوة.. فلا مكان لليأس إنها لحماقة أن يستولي اليأس على الإنسان، كما أني لا أعتقد أن اليأس حقيقة.

الرواية حافز على التصميم والمثابرة، ويتجلى ذلك في عودة الشيخ سالماً بعد معركة شرسة مع القروش التي التهمت سمكته الضخمة التي سيطر عليها بعد كفاح مرير.. ولكن كل ذلك لم يفقده ثقته بنفسه، وعاد بالهيكل العظمي للسمكة وساماً استقبله الجميع بكل إكبار وتقدير.

لقد نجح الكاتب في تصوير صراع الإنسان مع القدر.. سانتياغو العجوز قرر أن يتحدى البحر ويقهر الطبيعة بعوامله المعادية، المتمثلة بسمك القرش، وعبوره إلى عمق البحر، رغم كبر سنه وحيداً في قارب ليس في مستوى المهمة.

اعتنى الكاتب في الرواية بالسرد الوصفي في تصوير الملامح الجسدية للبطل، كما اهتم بتتابع الأحداث في رحلة الصراع، وجعل القارئ يعيش فصول المأساة وخطورة الأحداث من خلال تصوير السمكة وضخامتها والجهد المضني الذي بذل للسيطرة عليها، وعندما أبدع في تصوير القروش وأسنانها، كما أظهر بكل براعة عظمة العجوز وإرادته الحديدية وإصراره على الانتصار.. كما أن أسلوب أرنست همنغواي هي سرعة تواتر الجمل؛ حيث تتميز جمله بسهولة وسرعة القراءة والاستيعاب من قِبل القارئ، جمل خفيفة اللفظ، سريعة الإيقاع، واضحة الفكرة.

وإذا كان تشيكوف يضع الشخصية فوق الحبكة/الأحداث فإن الجميل -في هذه الرواية- أن الكاتب وضع الشخصية فوق الحدث، ووضع ما وراء الفكرة فوق الفكرة؛ ليرمي بالجميع خلف حجب الذات الكثيفة المتعددة.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد