خرجت إلى الشرفة قُبيل الفجر لتتنسم هواء عليلاً هاربة من الضجيج الذي يُحدثُه عقلُها باستمرار، كانت تظن أن الهروب إلى تلك الشرفة سيخلصها من تلك الأصوات التي لا تنقطع، نظرت إلى السماء فوقها وتساءلت: من هي؟ ولمَ خلقت؟ لمَ تتنفس الآن وتشغل حيزاً من الفراغ الهائل المحيط بكوكب الأرض؟ لا بد من وجود سبب لذلك.
عادت ذاكرتها إلى الوراء أعواماً إلى يوم انتهائها من مرحلة الثانوية العامة وحصولها على مجموع مرتفع، كان ذلك إنجازاً عظيماً في حياتها، تصورت بعده أنها أنهت شوطاً كبيراً من دورها في هذه الحياة. كان دورها يتلخص في إنهاء مراحل التعليم الأساسي والحصول على أعلى الدرجات، لم تكن تدري ما ينتظرها من قرارات حاسمة بعد تلك الخطوة، وها هي ذي تنهي مرحلة أخرى كانت تظن أنها الفاصلة في حياتها.
بعد موت رغبتها في أن تدخل عالم الصحافة، التحقت بإحدى كليات القاهرة الكبرى التي يطلق عليها "كليات القمة"، ولكنها مع الأسف أبعد ما تكون عن القمم، أقرب ما تكون إلى القاع، فمعظم القائمين على التعليم فيها يتبعون لائحة تعود لعشرات السنين، لا تواكب العصر أو تندمج مع تطور العالم من حولهم، فتجد الدراسة لا نفع لها، بل هي تعتمد تماماً على الحفظ والتدوين، بل وتجد أوائل الدفعات ما هم إلا مسوخاً يتبعون ما يطلب منهم بدون تفكير ولا استخدام للعضو الموجود في رأسهم.
قضت أولى سنوات الجامعة تحاول الاستفادة قدر الإمكان من ذلك المكان الشبيه بالمقبرة التي تعزل صاحبها عن العالم الخارجي وتقضي عليه بروتينها العجيب ونظامها الفاشل. ثم ماذا بعد؟ تستيقظ لتجد نفسك لا تعرف من أنت ولا إلى أين أنت ذاهب. انخرطت في تلك الدوامة التي لا تتوقف عن الدوران. لقد قضى ذلك القرار الذي اتخذته عليها.
يقولون إن هناك شيئاً يُدعى الصدفة، لكنها كانت مؤمنة بأن كل الأشياء تحدث لسبب، أحياناً يضع القدر في طريقك من يأخذ بيدك ويدفعك إلى الأمام لتصنع من نفسك شخصاً ناجحاً. تعرفت في السنة الثالثة إلى ما جعل منها شخصاً آخر، كان الهدف من التحاقها بذلك المكان هو أن تقتل الفراغ المسيطر على حياتها وتحيي ما قضت عليه الجامعة بداخلها. ولكن منذ قبولها وبدئها للعمل، أصبحت مثل من يكتشف شخصاً آخر بداخله؛ حيث بدأت التجربة تكشف لها ذاتاً لم تكن تعلم بوجودها من قبل.
بدأ الأمر بكونها مسؤولة عن مجموعة من الأشخاص، كانت المرة الأولى التي تتحمل فيها مسؤولية شخص غير نفسها، كان الهدف أن تساعدهم على اكتشاف أنفسهم وقدراتهم، وأن تجعل منهم قادة منتجين ومؤثرين في الحياة، يساعدها في ذلك أناس لم تكن تعلم بوجودهم حتى تلك اللحظة. كانت الثلاثة شهور الأولى هي الأسعد في حياتها منذ فترة، أصبحت شخصاً أكثر حيوية ونشاطا، لم تكن فقط تغير حياة أولئك الأشخاص بل تغير حياتها، كانت تكتشف كل يوم الجديد عن نفسها وتكون الصورة التي تبتغي لحياتها، أصبح لديها الشغف لتصنع فرقاً في ذلك المكان لتُخرج أجيالاً قادرة على التأثير فيمن حولها وتغيير العالم لمكان أفضل، أصبحت تجرب كل جديد، وتنتقل من مجال لآخر ومن مهمة لأخرى لتجد المكان الذي تنتمي إليه وتستطيع تحديد دورها ومهمتها في الحياة، قضت من عمرها عامين من البحث الممتع عن ذاتها، لقد أعادت "إحياء" لروحها السعادة لتحيي هي بدورها أشخاصاً آخرين.
توقفت الذكريات عن التدفق إلى دماغها في تلك اللحظة وكأن شخصاً قد ضغط على زر الإيقاف، ها هي تنظر إلى السماء من جديد ولكن بعيون دامعة، تحمد الله على الفرص التي لم ولن تنتهي التي تحظى بها منذ أن دخلت ذلك العالم، نعم لقد أنهت دراستها الجامعية وحصلت على الشهادة، ولكن التعليم لم يعد نهاية الطريق في نظرها، أصبحت لديها الآن رؤية مختلفة عن الحياة، أصبحت تعرف من هي، وتبحث جاهدة عما تريد، أصبح هناك مبرر لتلك الأصوات التي لا تتوقف في رأسها، فهي ما يحثها دائماً على الاستمرار، تلك الأصوات التي لا تهدأ ولن تهدأ لكي تستمر في البحث عن ذاتها والسعي لتحقيق أهدافها ورسالتها التي خُلقت من أجلها.
لا لا لم نخلق عبثاً، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ : "إِذَا مَاتَ ابْنُ آدَمَ انْقَطَعَ عَمَلُهُ إِلا مِنْ ثَلاثٍ: مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ"، ستضع ذلك نصب عينها ما دامت روحها تنبض بالحياة، فطالما تتنفس، ستتذكر أن دورها لم ينتهِ بعد.
ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.