حكاية فتاة شرقية غدت امرأة

أفتر ثغر سما عن ابتسامة أخذت تنمو كبذرة قمح تحمل في ثناياه بشريات الخير، قائلة: احلمي يا صغيرتي ما تشاءين.. وأصري على تحقيق أحلامك.. وسأعينك في السير قدماً نحوها وسأقنع والدك بمساعدتك.. فربما يكون بمقدورك ترميم مركب الأحلام المثقل بالسعادة الذي تحطم داخلي.. فتتمكنين بذلك من العبور إلى شواطئ قلبي وإدخال بعض من السعادة التي ماتت في طريقها إليه.. فتبعثين الحياة مرة أخرى في الأمنيات المهجورة في أعماقي..

عربي بوست
تم النشر: 2016/09/03 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش
تم التحديث: 2016/09/03 الساعة 03:12 بتوقيت غرينتش

سما.. الفتاة الثرثارة، ذات الأحلام والطموحات الوردية، شديدة الصخب، صاحبة الخيال العميق كما المحيط، تقفز من مكان إلى آخر، داخل البيت وخارجه، لا يكاد يحتويها مكان بعينه، فلا مقعد تستقر فوقه ولا حتى سرير النوم.. كنحلة يقظة شديدة النشاط، تتنقل من زهرة إلى أخرى تمتص رحيقها وهي تحرك جناحيها دون أن تستطيع حط رحالها بين بتلاتها.. وتذهب حاملة رحيقها ثم ما تلبث أن تعود.. وهكذا.. فالراحة ليست ديدنها.

تروي القصص التي يمليها عليها خيالها، وتتصور شخصيات قصصها أحياءٌ يرزقون.. فإبريق الشاي هو مصباح علاء الدين.. تفركه وتنتظر المارد أن يخرج ماداً يديه لها: شبيك لبيك، مارد المصباح بين يديك.. فتضحك لتطلب منه أن يصحبها في رحلة على بساط الريح فوق النيل ويعرج بها فوق الأهرام، ثم ينتقل بها إلى بغداد لترى حدائق بابل المعلقة التي قرأت عنها في التاريخ، وشاهدتها بخيالها وتحب أن تراها اليوم بأم عينيها.. وبما أنها تستطيع الطيران بسرعة ومن دون معيقات، لا بد من المرور على صنعاء لرؤية سد مأرب، ودمشق لرؤية الجامع الأموي، ومن الممتع أيضاً لو استطاعت رؤية المحيط وعبرت فوق مياهه الصافية البراقة عند شروق الشمس.

استيقظت الفتاة واسعة الخيال، شديدة الحب للقراءة والكتب والمدرسة، وشديدة العشق والتعلق بلغتها العربية.. حتى خالت نفسها أُماً للغتها الأم الحبيبة.. استيقظت الفتاة في أحد الصباحات فشعرت ببلٍ بين ساقيها.. ورأت بقعاً حمراء تبلل ثيابها.. اجتاحتها مخاوف لم تألفها، وأخذت تفكر في الاحتمالات الممكنة لتفسر ما حدث.. أعياها خيالها ولم تستطِع التوصل إلى نتيجة، فهي لم تسمع عن شيء كهذا من قبل.. ركضت باكية نحو والدتها التي لا تكاد تغادر المطبخ.

روت لها ما حدث همساً.. ابتسمت والدتها.. استغربت سما البسمة، وتلقت بعد تلك البسمة صفعة قوية أيقظتها من طفولتها وقذفت بها فجأة في عالم النساء إلى الأبد حين قالت لها: هذا يحدث لجميع الفتيات في مثل عمرك، فأنت لم تعودي طفلة صغيرة، أنت الآن امرأة كبيرة، عليك أن تراقبي نفسك جيداً وأن تنتبهي لتصرفاتك.. الصوت العالي والقهقهة، ممنوع.. الخروج من البيت، ممنوع.. القفز وتسلق الشبابيك ممنوع.. وحتى المدرسة، ستتوقفين عن الذهاب إليها..

– لماذا يا أمي؟ فأنا أحب المدرسة.. وأحب دروسي جداً، وأريد أن أصبح كاتبة كبيرة..
– البنات في عائلتنا لا يذهبن للمدارس بعد أن يغادرن عالم الطفولة ويحدث لهن ما حدث لك..
– أنا لست امرأة كبيرة يا أمي.. ما الذي تغير لديَّ فجأة ما بين الأمس واليوم؟.. بالأمس كنت في المدرسة.. فلماذا لا أذهب إليها اليوم؟؟ ما المانع الآن؟ أليس اليوم كالأمس؟
– ماذا سيقول الناس عنا إن استمررت في الخروج من البيت؟
– وما دخل الناس بي وبمدرستي؟
– أتريدين أن تبقي بلا زواج؟ لن يأتي أحد لخطبتك..
– ومن قال لك بأنني أريد الزواج؟
– جميع البنات في عائلتنا يتزوجن.. أما من ترفض الزواج في مثل عمرك، يفوتها القطار وتصبح عانساً.. أتريدين أن تصبحي عانساً مثل بنات كثيرات؟
– وما دخلي أنا بالأخريات.. أريد أن أكمل مدرستي وأذهب إلى الجامعة لدراسة اللغة العربية، أريد أن أصبح كاتبة كبيرة.. يحمل الناس كتبي كما تحمل النساء أطفالهن..

-بسم الله.. ما الذي لوث فكرك يا بنيتي؟ أنا متأكدة من أن سحراً قد مس عقلك.. أنت لست من ربيت..
– بل أنا ابنتك يا أمي، فكري ليس ملوثاً ولا مسحوراً كما تقولين.. كل ما في القصة أنني لا أريد أن أكون مثل باقي الحريم في العائلة.. أعطني فرصة وسأثبت لك كيف أن سما سترفع رأسك عالياً وستصبح مضرباً للأمثال.. ليس في بلدتنا فحسب وإنما في كل بلاد العرب..
-اللهم أبعد الشيطان عنا.. وتريدين أن يعرفك الجميع أيضاً؟ تريدين أن تصبحي معروفة حتى للرجال؟
– وما العيب في ذلك؟ معروفة بعلمي ومعرفتي ومؤلفاتي وتأثيري في تطور البلد ونهضته..
– ما هذا الكلام الخطير؟ أرجوك استري عليَّ ولا تتلفظي بهذا الكلام أمام جدتك ووالدك، وإلا فإنني سأكون المتضررة الأولى لتربيتي لك على هذه الشاكلة.
– لا خطر يحمله كلامي.. مثلما ذهب أخي للعاصمة ودرس في جامعتها وأقام هناك للعمل، أستطيع أنا أيضاً الذهاب إلى الجامعة والسكن معه والبقاء عنده.. وبهذا أؤنسه ويؤنسني ونساعد بعضنا بعضاً.
– هذا الكلام مرفوض.. لا بنات عندنا يخرجن للتعليم.. اطوِ هذه الصفحة وانتظري نصيبك الذي بات قريباً..

وبعد ما يزيد على شهر.. زُفت سما الطفلة التي أحالها المحيطون بها فجأة إلى امرأة بعد أن هُشِمت أحلامها وحُفِظت طموحاتها في علبة مغلقة بإحكام سقطت من عربة القطار أثناء انتقالها برفقة زوجها إلى بلاد الثلج حيث يقيم.. بعيداً عن الأهل ومهد الأحلام وحكايات الخيالية علاء الدين والمصباح السحري وبساط الريح..

وبعد مضي خمسين عاماً جلست فتاة إلى جانب سما ممسكةً بيدها، قبَّلتها قائلة: جدتي.. كم أحبك.. لأنك الوحيدة التي تفهمين ما أعني، وتتقبلين أحلامي..

جدتي أرغب بأن أصبح عالمة كبيرة.. أمزج المواد الكيميائية في مختبري الصغير، وأدون نتائجي وأوثقها في مؤلفاتي.. أريد أن آتي للعالم باكتشافات جديدة في عالم الكيمياء الذي أعشقه، تسهل حياة البشر وتعالج أمراضهم.. أحلم بأن أقضي حياتي بين أنابيب المختبر مرتدية معطفي الأبيض.. أتمنى أن أدرس الكيمياء في الجامعة وأكمل طريقي حتى أصبح الأكثر علماً فيها على وجه الأرض.

أفتر ثغر سما عن ابتسامة أخذت تنمو كبذرة قمح تحمل في ثناياه بشريات الخير، قائلة: احلمي يا صغيرتي ما تشاءين.. وأصري على تحقيق أحلامك.. وسأعينك في السير قدماً نحوها وسأقنع والدك بمساعدتك.. فربما يكون بمقدورك ترميم مركب الأحلام المثقل بالسعادة الذي تحطم داخلي.. فتتمكنين بذلك من العبور إلى شواطئ قلبي وإدخال بعض من السعادة التي ماتت في طريقها إليه.. فتبعثين الحياة مرة أخرى في الأمنيات المهجورة في أعماقي..

تقدمي يا صغيرتي.. وأنا أسند ظهرك حتى لا تتكرر حكاية الخذلان التي حدثت معي في قديم الزمان.

ملحوظة:
التدوينات المنشورة في مدونات هافينغتون بوست لا تعبر عن وجهة نظر فريق تحرير الموقع.

تحميل المزيد